فصل لما ذكر ثواب أهل الجنة ووصفها وذكر مآكل أهل الجنة ومشاربهم وقال :" لِمثْلِ هذا فليعمل العاملون أتبعَهُ بقوله :" قُلْ " يا محمد أذلك خيرٌ أم شجرة الزقوم ليصير ذلك زاجراً لهم عن الكفر.
وذكر مآكل أهل النار ومشاربهم.
والنُّزُل الفضلُ الواسع في الطعام ؛ يقال : طعام كثيرُ النُّزُلِ، و (استعير) للحاضر من الشيء ؛ ويقال : أرسل الأميرُ إلى فلان نُزُلاً وهو الشيء الذي يحصل حال من نزل بسببه.
وإذا عرف هذا فحاصل الرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم والغمُّ.
ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الجزائيَّة إلا أنه جاء هذا الكلام إما على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما اختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم العظيم والكافرين اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم قيل لهم ذلك توبيخاً لهم على اختيارهم.
قال الكلبي : لما نزلت هذه الآية ابن الزَّبَعْرَى : أكثر الله في بيوتكم الزقوم فإن أهل اليمن يسمون التّمر والزُّبْدَ بالزقوم فقال أبو جهل لجاريته : زَقِّمِينَا فأتته بزُبْد وتَمْرِ وقال تَزَقَّمُوا قال الواحدي : ومعلوم أن الله تعالى لم يرد بالزقوم ههنا التمر والزُبْد قال ابن دُرَيْدٍ لم يكن للزقُّوم اشتقاق من الزّقْم وهو الإفراط في أكل الشيء حتى يكره ذلك، يقال : بَاتَ فُلانٌ يَتَزقمُ وظاهر لفظ القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم منتنة الرائحة شديدة الخشونة موصوفة بصفات رديَّة وأنه تعالى يكره أهل النار على أكلها.
قوله :﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ﴾ أي الكافرين وذلك أن الكفار لما سمعوا هذه الآية قولوا : كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر ؟ فأجيبوا : بأن خالق النار قادر على أنْ يمنع النار من إحراق الشجر ؛ لأنه إذا جاز أن تكونَ في النار زبانية والله تعالى يمنع النار عن إحراقهم فَلِمَ لا يجوز مثله في هذه الشجرة ؟ فمعنى كون شجرةِ الزقوم فتنةً للظالمين هو أنهم لما سمعوا هذه الآية وبقيت تلك الشبهةُ في قلوبهم وصارت سبباً لتماديهم في الكفر فهو المراد من كونها فتنةً لهم.
أو بكون المراد صيرورةَ هَذِهِ الشجرة فتنةً لهم من النار لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك
٣١٣
عليهم فحينئذ يصير ذلك فتنةً في حقِّهم.
أو يكون المراد من الفتنة الامتحان والاختبار فإن هذا شيء بعيد عن العُرْف والعادة.
وإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله وإذا ورد على الزِّنْدِيقِ توسل به إلى الطَّعن في القرآن والنبوة.
ثم إنه تعالى وصف هذه الشجرة بصفاتس الأولى قوله :﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِى أَصْلِ الْجَحِيمِ﴾ قال الحسن : أصلها في قَعْر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دَرَكَاتِهَا.
الصفة الثانية قوله :" طَلْعُها " أي ثمرها سمي طَلْعاً لطُلُوعه قال الزمخشري : الطَّلْعُ للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية، قال ابن قتيبة : سمي طلْعاً لطُلُوعِهِ كُلَّ سنة فلذلك قيل : طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره.
قوله :﴿رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه حقيقة، وأن رؤوس الشياطين شجرةٌ معينة بناحية اليمن تسمى الأستن قال النابغة : ٤٢١٣ - تَحِيدُ عَنْ أسْتن سُودٍ أَسَافِلُهَا
مِثْل الإمَاءِ الغَوَادِي تَحْمِلُ الحُزَمَا
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣١٢
وهو شجر منكر الصورة سَمَّتْهُ العرب بذلك تشبيهاً برُؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلاً يشبه به.
وقيل : الشياطين صنف من الحيات ولهن أعراف قال : ٤٢١٤ - عُجَيْزٌ تَحْلِفُ حِينَ أَحْلِفُ
كَمِثْلِ شَيْطَانِ الْحَمَاطِ أَعْرَفُ
وقي : شجر يقال له : الصوم ومنه قول ساعدة بْن جُؤَيَّةَ : ٤٢١٥ - مُوَكّلٌ بشُدُوفِ الصَّوْمِ يرْقُبُهَا
مِنَ الْمَعَازِبِ مَخْطُوفُ الحَشَا زَرِمُ
٣١٤
فعلى هذا قد خوطبت العرب بما تعرفه، وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة، والثاني أنه من باب التخيل والتمثيل وذلك أنه كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يره والشياطين وإن كانوا موجودين غَيْرَ مَرئيِّين للعرب إلا أنه خاطبهم بما أَلِفُوهُ من الاستعارات التخييليه كقول امرئ القيس :[البسيط] ٤٢١٦ - أَيَقْتُلُنِي وَالْمَشْرِفيُّ مُضَاجِعِي
ومَسْنُونَةٌ رُزْقٌ رُزْقٌ كَأَنْيَابِ أَعْوَالِ