أحدهما : إثبات البنات لله وذلك باطل لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت والشيء الذي يستنكف منه المخلوق كيف يمكن إثباته للخالق ؟ والثاني : إثبات أن الملائكة إناثٌ، وهذا أيضاً باطل لأن طريق العلم إما الحِسُّ وإما الخبر وإما النظر أما الحِسُّ فمفقود لأنهم لم يشاهدوا كيف خلق الله الملائكة وهو المراد من قوله :﴿أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾ وأما الخبر فمفقود أيضاً لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدر على صدقهم دليل وهذا هو المراد من قولهم :﴿أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ وأما النظر فمفقود من وجهين : الأول : أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء البنات على البنين بمعنى إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب إلى العقل من إسناد الأَخَسّ إلى الأفضل فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولكم باطلاً.
الثاني : أن يتركوا بترك الاستدلال على فساد مذهبهم بل نطالبهم بإثبات الدليل على صحة مذهبهم فإذا لم يجدوا دليلاً ظهر بطلان مذهبهم، وهذا هوالمراد بقوله :﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ فقوله :﴿فَاسْتَفْتِهِمْ﴾ فاسأل يا محمد أهل مكة وهو سؤال توبيخ ﴿أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلاَئِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾ وهذه جملة حالية من الملائكة، والرابط الواو، وهي هنا واجبة عدم رابط غيره قاله شهاب الدين ؛ ويحتمل أن يكون جملة حالية من السؤالين.
قوله :﴿أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ العامة على " ولد " فعلاً ماضياً مسنداً للجلالة، أي أتى بالولد ؛ تعالى عما يقولون علواً كبيراً، وقرئ : وَلَدُ الله بإضافة الولد إليه أي يقولون الملائكة ولده، فحذف المبتدأ للعلم به، وأبقى خبره، والوَلَدُ فَعَلٌ بمعنى مفَعُولٌ كالقَبَض فلذلك يقع خبراً عن المفرد والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً، (تقول : هَذِهِ) وَلَدِي وهُمْ وَلَدِي.
قوله :﴿أَصْطَفَى﴾ العامة على فتح الهمزة على أنها همزة استفهام بمعنى الإنكار والتقريع، وقد حذف معها همزة الوصل استغناءً عنها.
وقرأ نافعٌ في رواية وأبو جَعْفَر
٣٥٠
وشيبةُ والأعمشُ بهمزة وصل تثبت ابتداء وتسقط درجاً وفيه وجهان : أحدهما : أنه على نية الاستفهام، وإنما حذف للعمل به ومنه قول عمر بن أبي ربيعة : ٤٢٢٦ - قَالُوا : تُجِبُّهَا قُلْتُ : بَهْراً
عَدَدَ الرَّمْلِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٣٤٩
أي أتحبها.
والثاني : أن هذه الجملة بدل من الجملة المحكية بالقول وهي :" وَلَد اللَّهِ " أي تقولون كذا وتقولون اصْطَفَى هذا الجنس على هذا الجِنْس.
(قال الزمخشري : وقد قرأ بها حمزة والأعمشُ.
وهذا القراءة وإن كان هذا محلها فهي ضعيفة والذي أضعفها) أن هذه الجملة قد اكتنَفَها الإنْكَارُ من جانبيها وذلك قوله :﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ....
مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ فمن جعلها للإثبات فقد أوقعها دخيلة بين نسبتين ؛ لن لها مناسبةً طاهرةً مع قولهم :" ولد الله " وأما قولهم :﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ فهي جملة اعتراض بين مقالة الكفرة جاءت للتشديد والتأكيد في كون مقالتهم تلك هي من إفكهم، ونقل أبو البقاء أنه قرئ " آصْطَفَى " بالمد قال : وهو بعيد جداً.
قوله :﴿مَالَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ جملتان استفهاميتان ليس إحداهما تعلق بالأخرى من حيث الإعراب استفهم أولاً عما استقر لهم وثبت استفهام إنكار، وثانياً استفهام تعجب من حكمهم بهذا الحكم الجائر وهو أنهم نسبوا أحسن الجنسين إليهم والمعنى : ما لكم كيف تحكمون لله بالبنات ولكم بالبنين ؟ " أفَلاَ تَذَكَّرُونَ " تتعظون " أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبينٌ " برهان بين على أن الله ولد ﴿فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ﴾ الذي لكم فيه حجة ﴿إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ في قولكم.
٣٥١