جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٨٨
قوله :﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ﴾ في " من " هذه وجهان : أظهرهما : أنها موصولة في محل رفع بالابتداء وخبره محذوف فقدره أبو البقاء :" كَمَنْ نَجَا " وقدره الزمخشري :" فَأَنْتَ تُخَلِّصُهُ " قال : حذف لدلالة :" أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ " عليه وقدره غيره : تَتَأسَّفُ عليه، وقدره آخرون : تَتَخَلَّص منه، أي من العذاب.
وقدر الزمخشري على عادته جملة بين الهمزة والفاء تقديره، أَأَنْتَ مَالِكُ أَمْرِهمْ فَمَن حَقّ عليه كملة العذاب.
وأما غيره فيدعي أن ألصل تقديم الفاء، وإنما آخّرت لما تستحقه الهمزة في التصدير وقد تقدم تحقيق هذين القولين.
الثاني : أن تكون " مَنْ " شرطية وجوبها :" أَفَأَنْتَ " فالفاء فاء الجواب دخلت على جملة الجزاء، وأعيدت الهمزة لتوكيد معنى الإنكار.
وأوقع الظاهر وهو " مَنْ فِي النَّار "
٤٩٤
موقع المضمر إذ كان الأصل أفأنت تنقذه وإنما وقع موقعه شهادةً عليه بذلك، وإلى هذا نَحَا الحَوْفِيُّ والزمخشريُّ، قال الحوفي : وجيء بألف الاستفهام لمّا طال الكلام توكيداً ولولا طولُه لم يجز الإتيان بها لأنه لا يصلح في العربية أن يؤتى بألف الاستفهام في الاسم، وألف أخرى في الجزاء ومعنى الكلام أفَأنْت تُنْقِذُهُ.
وعلى القول بكونها شرطية يترتّب على قول الزمخشري وقول الجمهور مسألة وهو أنه على قول الجمهور يكون قد اجتمع شرط واستفهام.
وفيه حينئذ خلافٌ بين سِيبويِه ويُونُسَ هل الجملة الأخيرة في جواب الاستفهام وهو قول يونس أو جواب الشرط وهو قول سيبويه.
وأما على قول الزمخشري فلم يجتمع شَرْطٌ (و) استفهام ؛ إذا أداةُ الاستفهام عنده داخلةٌ على جملةٍ مَحْذُوفةٍ عطفت عليها جملة الشرط ولو لم يدخل على جملة الشرط.
وقوله :﴿أَفَأَنتَ تُنقِذُ﴾ استفهام توقيف، وقدم فيها الضميرُ إشعاراً بأنك لستَ قادراً على إنقاذه إنما القَادِرُ عليه اللَّهُ وَحْدَهُ.

فصل قال ابن عباس : عنى الآية من سبق في علم الله أنه في النار.


وقيل كلمة العذاب قوله تعالى :﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ [هود : ١١٩] وقيل : هي قوله :" هَؤُلاَءِ فِي النَّارِ وَلاَ أُبالي ".
فصل احتج أهل السنة بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال بقوله :﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ﴾ فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة وإلاّ لزم (انقلاب) خبر الله الصدق كذباً وانقلاب علمه جهلاً، وهو محالٌ، وأيضاً فإنه تعالى
٤٩٥
حكم بأن حقية كلمة العذاب (توجب الاستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة منه لو كان ذلك ممكناً ولم تكن حقية كلمة العذاب) مانعه منه لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنًى.
فصل احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي - ﷺ - لا يشفع لأهل الكبائر لأنه حق عليهم العذاب فتلك الشفاعة تكون جاريةً مجرى إنقاذهم من النار وأن الله تعالى حكم عليهم بالإنكار والاستبعاد، وأجيب : بأنا لا نسلم أن أهل الكابئر قد حق عليهم العذاب وكيف يحق عليهم العذاب مع أن الله تعالى قال :﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذالِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء : ١١٦] وقال :﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ [الزمر : ٥٣].
قوله :﴿لَـاكِنِ الَّذِينَ اتَّقَواْ رَبَّهُمْ﴾ استدراك بين شيئين نقيضين، أو (بين) ضدين، وهما المؤمنون والكافرون وقوله :﴿لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ﴾ وهذا كالمقابل لما ذكر في وصف الكفار :" لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل " والمعنى لهم منازل في الجنة رفعية، وفوقها منازل أرفع منها.
فإن قيل : ما معنى قوله " مبينة " ؟ فجوابه : أن المَنْزِل إذا بُني على مَنْزِلٍ آخر كان الفَوْقَاني أضعف بناءً من التَّحْتَانِيّ، فقوله " مبينةٌ " معناه أنه وإن كان فوق غيره لكنه في القوة والشدة مساوٍ المنزل الأسفل، ثم قال :﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ وذلك معلوم.
قوله :﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة فهو منصوب بواجب الإضمار لأن قوله :﴿لَهُمْ غُرَفٌ﴾ في معنى وَعَدَهُم اللَّهُ ذلك، وفي الآية دقيقة شريفة وهي أنه تعالى في كثير من آيات الوعد يصرح بأن هذا وعد الله وأنه لا يخلف وعده ولم يذكر في آيات الوعيد البتة مثل هذا التأكيد والتقوية، وذلك يدل أنّ جانب الوعد أرجح من جانب الوعيد بخلاف قول المعتزلة إنه قال في جانب الوعيد ﴿مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [ق : ٢٩] وأجيبوا بأن قوله :" ما يبدل القول لدي " ليس تصريحاً بجانب الوعيد بل هو عام يتناول القِسْمَيْن الوعد والوعيد فثبت أن الترجيح الذي ذكرنا حق.
والله أعلم.
٤٩٦
جزء : ١٦ رقم الصفحة : ٤٩٤


الصفحة التالية
Icon