وإطلاقاً في الإقدام عليها وذلك لا يليق بحكمة الله تعالى.
وإذا ثبت هذا وجب أن يحمل على أن المراد منه التنبيه على أنه لا يجوز أن يظن (العاصي) أن لا مخلصَ له من العذاب البتة فإن اعتقد ذلك فهو قانطٌ جميعاً أي بالتوبة والإنابة.
فالجواب :(قوله) إن الآية تقتضي كون كل الذنوب مغفورة قطعاً وأنتم لا تقولون به قلنا : بَلَى نحن نقول به لأن صيغة " يَغْفر " للمضارع وهي الاستقبال وعنْدَنا أن الله يُخْرج من النار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وعلى هذا التقدير فصاحب الكبير مغفورة له قطعاً إما قبل دخول النار وإما بعد دخولها فثبت أن دلالة ظاهر الآية عينُ مذهبنا وأما قوله : لو صارت الذنوب بأسرها مغفورة لما أمر بالتوبة.
فالجواب : أن عندنا التوبة واجبة وخوف العقاب قائم فإذن لا يُقْطَع بإزالة العقاب بالكلية بل نقول لعله يعفو مطلقاً ولعله يعذب بالنار مدة ثم يعفو بعد ذلك وبهذا يخرج لاجواب عن بقية الأسئلة والله أعلم.
وروى مقاتل بن حيَّان عن نافع عن ابْن عُمَر قال : كنا معْشَر أصحاب رسول الله - ﷺ - نرى أن نقول ليس شيء من حسناتنا إلا وهي مقبولة حتى نزلت :﴿أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا ااْ أَعْمَالَكُمْ﴾ [محمد : ١٠] فلما نزلت هذه الآية قلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا ؟ فقلنا : الكبائر والفواحش وكنا إذا رأينا من أصاب شيئاً منها (قلنا : قد هلك فأنزل الله هذه الآية فَكَفْفنَا عن القول في ذلك، فكنما إذا رأينا أحداً أَصاب) منها شيئاً خِفْنا عليه وإن لم يُصب منها شيئاً رجوْنا له، وأراد بالإسراف ارتكاب الكبائر (وروي) عن ابن مسعود أنه دخل المسجد فإذا قاصٌّ (يقُصُّ) وهو يذكر النار والأغلال فقام على رأسه فقال : يا مُذكِّرُ لِمَ تُقَنِّطُ النا ؟ ثُمَّ قرأ :" قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُو مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ " وعن أَسْمَاءَ بنتِ يزيد قالت : سمعت رسول الله - ﷺ - يقول :" يَا عِبَادِي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله (إنا الله يغفر الذنوب جميعاً ولا يبالي) " وروى أبو هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال :" قَال رَجُلٌ لم يعمل خيراً قط لأهله : إذا مات فَحَرِّقُوه ثم ذَرُّوا نِصْفَهُ في البَرّ ونصفَه في البحر
٥٢٩
فواللِّه لئن قَدَرَ الله عليه ليعدبَنَّه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين فلما مات فعلوا ما أمرهم فَأَمَرَ الله البحرَ فجمع ما فيه وأمر البَرَّ فجمع ما فيه، ثم قال له : لِمَ فَعَلْتَ هذا قال : مِنَ خشيتك يا رب وأنتَ أعلمُ فَغَفَر لَهُ ".
وعن ضَمْضَم بن حَوْشَـ(ـب) قال : دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ فقال : يا يمانيّ تَعضالَ وما أعرفه فقال : لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبداً ولا يدخلك الجنة قلت : ومن أنت يرحمك الله ؟ قال : أبو هريرة قال فقلت إن هذه الكملة يقولها أحدُنا لبعض أهله إذا غضب أو زوجه أو لخادمه قال : فإني سمعت رسول الله - ﷺ - يقول :" إنَّ رَجُلَيْن كَانَا فِي بني إسرائيل مُتَحَابِّيْنِ أحدهما مجتهدٌ في العبادة والآخرة كأنه يقول : مذنب فجعل يقول أقصر عما أنت فيه قال : فيقول خلّني وربي قال : حتى وجده يوماً على ذنب استعظمه فقال أقصر فقال : خلني وربي أبعثت علي رقيباً فقال : والله لا يغفر لك الله أبداً ولا يدخلك الجنة أبداً قال : فبعث الله إليهما ملكاً فقبض أرواحها فاجتمعا عنده فقال للمذنب ادخل الجنة برحمتي وقال للآخر : أتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي ؟ فقال : لا يا رب فقال : اذهبوا به إلى النار " قال أبو هريرة : والَّذِي نفسي بيده لـ (ـقد) تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته.
قوله عز وجل :﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
قوله :﴿يا عِبَادِيَ﴾ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم يا عبادي بفتح الياء، والباقون وعاصم - في بعض الروايات - بغير فتح، وكلهم يقفون عليها بإثبات الياء ؛ لأنها ثابتة في المصحف إلا في بعض رواية أبي بكر عن عاصم أنه يقف بغير ياء.
قوله :﴿لاَ تَقْنَطُواْ﴾ قرأ أبو عمرو والكِسائي بكسرالنون، والباقون بفتحها، وهما لُغَتَان، قال الزمخشري : وفي قراءة ابن عباس وابن مسعود " يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً لمنْ يَشَاءُ ".
قوله :﴿وَأَنِيبُوا ااْ إِلَى رَبِّكُمْ﴾ قال الزمخشري أي تُوبُوا إليه " وأسْلِمُوا لَهُ " أي وأخلصوا
٥٣٠