الأول : أنه تعالى بين أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق يوم هم بارزون، ويوم تجزى كل نفس ما كسبت، والناس في ذلك الوقت أحياء فبطل قولهم إنما ينادى هذا النداء حين يَهْلِكُ كُلُّ من في السموات ومن في الأرض.
الثاني : أن الكلام لا بد فيه من فائدة ؛ لأن الكلام إما أن يذكر حالَ حُضُور الغير أو حالَ ما لا يَحْضُرُ الغير، والأول باطل ههنا ؛ لأن القوم قالوا : إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل.
والثاني أيضاً باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده إما لأن يحفظ به شيئاً كتكريره على الدرس وذلك على الله تعالى محال أو لأجل أن يعدي الله بذلك الذكر وهذا ايضاً على الله تعالى محال فثبت (أن) قولهم : إن الله تعالى يذكر هذا النداء حال هلاك جميع المخلوقات باطل، وقال بعض المفسرين : إنه في يوم التلاق إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا لله نادى منادٍ : لمن الملك اليوم ؟ فيقول كل الحاضرين في محفل القيامة : لله الواحد القهار، فالمؤمنون يقولونه تلذذاً بهذا اللكلام حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة، والكفار يقولونه تحسراً وصَغَاراً وندامةً على تفويتهم هذا الذكر في الدنيا، وقال القائلون بهذا القول الأول عن ابن عباس وغير إن هذا النداء بعد هلاك البشر لم يمنع أن يكون هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء ويجيبون بقولهم : لله الواحد القهار.
وقال ابن الخطيب : أيضاً على هذا القول لا يبعد أن يكون السائل والمجيب هو الله تعالى، ولا يعبد أيضاً أن يكون السائل جمعاً من الملائكة والمجيب جمع آخرون وليس على التعهيين دليل.
قوله :﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ يجزى المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته ﴿لاَ ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢١
قوله تعالى :﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الأَزِفَةِ...
﴾ والمقصود بها وصف يوم القيامة، ويوم الآزفة يجوز أن يكون مفعولاً به اتساعاً، وأن يكون ظرفاً، والمفعول محذوف، والآزفة فاعلة من أَزِفَ الأمْرُ إذا دنا وحضر، كقوله في صفة القيامة ﴿أَزِفَتِ الآزِفَةُ﴾
٢٧
[النجم : ٥٧].
أي قربت، قال النابغة الشاعر (رحمة الله عليه) : ٤٣٢٥ـ أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنا
لَمَّا تَزَلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ
وقال كعب بن زهير : ٤٣٢٦ـ بانَ الشَّبَابُ وهذا الشَّيْبُ قَدْ أَزِفَا
وَلاَ أَرَى لِشَبَابٍ بَائِنٍ خَلَفَا
وقال الراغب : وأَزِفَ، وأَفِدَ يَتَعَاقَبَانِ، ولكن أَزِفَ يقال اعتباراً بضيق وقتها، ويقال أزف الشخوص، والأَزْفُ ضيقُ الوقت.
قال شهاب الدين، فجعل بينهما فَرْقاً، ويروى بيت النابغة أَفِدَ والآزفة صفة لموصوف محذوف، فيجوز أن يكون التقدير الساعة الآزفة، أو الظلمة الآزفة، وقوله :" إذِ القُلُوبُ " بدل من " يوم الآزفة " أو من " هُمْ " في " أَنْذِرْهُمْ " بدل اشتمال.
فصل المقصود من الآية التنبيه على أن يوم القيامة قريب، ونظيره قوله تعالى :﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ﴾ [القمر : ١] قال الزجاج : إنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس مداها وما هو كائنٌ فهو قريب.
واعلم أن الآزفة نعت لمحذوف مؤنث فقيل : يوم القيامة الآزفة، أو يوم المجازاة الآزفة، قال القفال : وأسماء القيامة تجري على التأنيث كالطامة والحاقة ونحوها، كأنها يرجع معناها على الداهية.
وقيل : المراد بيوم الآزفة مُشَارَفَتُهُمْ دخول النار، فإن عند ذلك ترتفع قلوبهم
٢٨