وقرأ ابن عباس والضحاك والكلبي وأبو صالح وابن مقسم والزعفراني في آخرين بتشديدها مصدر تَنَادَّ من : نَدَّ البَعِيرُ إذَا هَرَبَ ونَفَرَ، وهو في معنى قوله تعالى :﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ﴾ [عبس : ٣٤] الآيات ويدل على صحة هذه القراءة قوله تعالى بعد ذلك :﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾.
قال أبو علي : التَّنادي مخففاً من التناد من قولهم نَدَّ فلانٌ إذا هرب.
وفي الحديث :" جَوْلَةً يَنِدُّونَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ مَهْرَباً " وقال أميةُ بنُ أبي الصَّلْتِ : ٤٣٣٩ـ وَبَثَّ الخَلْقَ فِيهَا إذْ دَحَاهَا
فَهُمْ سُكَّانُهَا حَتَّى التَّنَادِي
قوله :" يَوْمَ تُوَلُّونَ " يجوز أن يكون بدلاً من " يوم التناد " وأن يكون منصوباً بإضمار " أعني ".
ولا يجوز أن يكون عطف بيان، لأنه نكرة وما قبله معرفة، وقد تقدم في قوله ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران : ٩٧] أن الزمخشري جعله بياناً مع تخالفهما
٤٧
تعريفاً وتنكيراً وهو عكس هذا، فإن الذي نحن فيه الثاني نكرة، والأول معرفة.
قوله ﴿مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ يجوز في " من عاصم " أن يكون فاعلا بالجار، لاعتماده على النفي، وأن يكون مبتدأ أو من مزيدة على كلا التقديرين، ومن الله متعلق بعَاصِمٍ.
فصل أجمع المفسرون على أن يوم التنادي (هو) يوم القيامة وفي تسميته بهذا الاسم وجوه : قيل : لأن أهل النار ينادون أصحابَ الجنة، وأصحاب الجنة ينادون أصحابَ النار كما حكى الله عنهم.
وقال الزجاج : هو قوله تعالى :﴿يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ [الإسراء : ٧١].
وقيل : ينادي بعضُ الظالمينَ بعضاً بالويْل والثُّبُور، فيقولون : يَا وَيْلَنَا.
وقيل : يُنَادَوْنَ إلى المحشر وقيل ينادي المؤمن : هَاؤُم اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ، والكافر : يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ، وقيل : ينادى باللَّعَنةِ على الظالمين، وقيل : يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح بين الجنة والنار، ثم ينادى يا أهل الجنة خلود بلا موت، ويا أهل النار خلود بلا موت، وقيل : ينادى بالسعادة والشقاوة ألا إنَّ فلان بان فلان سِعِدَ سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وفلان بان فلان شقي شقاوة فلا يسعد بعدها أبداً.
وقوله :﴿يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ﴾.
قال الضحاك : إذا سمعوا زفيرَ النار نَدُّوا هرباً فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة صفوفاً فيرجعون إلى مكانهم فذلك قوله :﴿وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَآئِهَآ﴾ [الحاقة : ١٧] وقوله :﴿يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ﴾ [الرحمن : ٣٣].
قال مجاهد ـ رضي الله عنه ـ : فارِّينَ عن النار غير معجزين، ثم أكد التهديد فقال :﴿مَا لَكُمْ مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾ يعصمكم من عذابه، ثم نبه على قوة ضلالتهم وشدة جهالتهم فقال ﴿وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾.
٤٨
قَوْلُهُ (تَعَالَى) :﴿وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ﴾ يعني يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالبينات، ونقل الزمخشري أنه قبل يوسف بن إبراهيمخ بن يوسف بن يعقوب أقام فيهم نيفاً وعشرين سنة وقيل : إن فرعون موسى هو فرعون يوسف بَقِيَ حيًّا إلى زمانه، وقيل : هو فرعون آخر.
والمقصود من الكل شيء واحد هو أن يوسف حاء قومه بالبينات هي قوله تعالى :﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف : ٣٩] والأولى أن يُراد بها المعجزات.
واعلم أن مؤمن آل فرعنونه لما قال لهم : ومن يضلل الله فما له من هاد ذكر هذا المثال وهو أن يوسف جاءهم بالبينات الباهرة فأصروا على التكذيب ولم ينتفعوا بتلك الدلائل، وهذا يدل على (أن) من أضله الله فما له من هاد، ثم قال :﴿فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ﴾ قال ابن عباس ـ (رضي الله عنه ـ) : من عبادة الله وحده لا شريك له، فلم ينتفعوا ألبتة بتلك البينات.
قوله " حَتَّى إذَا " غاية لقوله ﴿فما زلتم في شك﴾، فَلَمَا هَلَك ﴿قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً﴾ أي أقمتم على كفركم، وظننتم أن الله تعالى لا يجدد عليكم الحجة، وقرىء ألن يبعث الله بإدخال همزة التقرير يقرّر بعضهم بعضاً.
قوله :" كَذَلِكَ " أي الأمر كذلك، أو مثل هذا الضلال يضل الله كل مسرف كذاب في عصيانه مرتاب في دينه، فقوله " يضل الله " مستأنف، أو نعت مصدر أي مثل إضلال الله إياكم حين لم تقبلوا من يوسف يضل الله من هو مسرف.
ثم بين تعالى ما لأجله بقُوا في ذلك الشك والإسراف فقال :﴿الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ﴾ أي بغير حجة إما بناء على التقليد، وأما بناء على شبهات خسيسة.
قوله :" الَّذِينَ يُجَادِلُونَ " يجوز فيه عشرة أوجه : أحدها : أنه بدل من قوله " من هو مسرف " وإنما جمع اعتباراً بمعنى " من ".
٤٩