ويجوز أن يقال إنّ " لاَ جَرَمَ " نظير " لاَ بُدَّ " فَعَلَ من الجَرْم ـ وهو القطع ـ كما أن " بُدًّا " فعل من التبديد وهو التفريق، وكما أن معنى : لاَ بُدَّ أنكَ تَفْعَلُ كذا بمعنى لاَ بُدَّ لك من فِعْلِهِ، فكذلك ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ﴾ [النحل : ٦٢] أي لاَ قَطْعَ لذلك بمعنى أنهم أبداً يستحقون (العقاب) النار لا انقطاع لاسْتِحْقَاقِهِمْ، ولا قطع لبُطْلاَن دعوة الأصنام أي لا تزال باطلةً لا ينقطع ذلك فينقلب حقًّا.
فصل قال البغوي :" لاَ جَرَمَ " حقاً ﴿أَنَّمَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ﴾ أي للدين دعوة في الآخرة قال السدي (رحمه الله) لا يستجيب لأحد في الدنيا ولا في الآخرة يعني ليست له استجابة دعوة، فسمى استجابة الدعوة دعوة، إطلاقًاً لاسم أحد المضافين على الآخر، كقوله : وجزاء سيئة سيئة مثلها.
وقيل : ليستْ له دعوة أي عبادة في الدنيا ؛ لأن الأوثانَ لا تَدَّعِي الربوبية، ولا تدعو إلى عبادتها وفي الآخرة تتبرأ من عابديها.
ثم قال :" وأَنَّ مَرَدَّنَا " أي مرجعنا " إلَى اللهِ " فيجازي كُلاًّ بما يَسْتَحِقُّهُ، " وَأَنَّ المُسْرِفِينَ " المشركين ﴿هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ﴾.
قاله قتادة.
وقال مجاهد : السفاكين الدماء.
ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذا البيان ختم كلامه بخاتِمَةٍ لطيفة فقال :﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ﴾ وهذا كلام مبهم يوجب التخويف، وهذا يحتمل أن يكون المراد منه أن هذا الذكر يحصل في الدنيا أي عند الموت، وأن يكون في القيامة عند مشاهدة العذاب حين لا ينفعكم الذكر.
قوله :" وَأُفَوِّضُ " هذه مستأنفة.
وجواز أبو البقاء أن تكون حالاً من فعال " أقولُ ".
وفَتَحَ نافعٌ وأبُوا عَمْروا الياء من : أمري، والباقون بالإسكان.
فصل لما خوفهم بقوله :﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ﴾ توعدوه وخوفوه فعول في دفع
٦٠
تخويفهم وكيدهم ومكرهم على الله بقوله :﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِى إِلَى اللَّهِ﴾ وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين خوّفة فرعون بالقتل فرجع موسى في دفع ذلك الشر إلى الله تعالى فقال :﴿إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ﴾ [غافر : ٢٧].
ثم قال :﴿إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾.
أي عالم بأحوالهم يعلم المحقَّ من المُبطل.
قوله :﴿فَوقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ﴾.
قال مقاتال : لما قال هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه، فلم يهتدوا عليه.
وقيل : المراد بقوله : فوقاه الله سيئات ما مكروا أنه قصدوا إدخاله في الكفر، وصرفه عن الإسلام، فوقاه الله من ذلك.
والأول أولى، لأن قوله بعد ذلك :﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُواءُ الْعَذَابِ﴾ لا يليق إلا بالوجْهِ الأول.
وقرأ حمزة وَحِيقَ ـ بكسر الحاء ـ وكذلك في كل القرآن والباقون بفالتح.
قال قتادة : نجا مع مُوسَى، وكان قِبْطِيًّا.
" وَحَاقَ " نزل " بآل فرعون سواء العذاب " الغرق في الدنيا، والنار في الآخرة.
قوله :" النَّارُ " الجمهور على رفعها، وفيه ثلاثةُ أوجهُ : أحدهما : أنه بدل من :" سوء العذاب " قاله الزجاج.
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي سُوء العذابِ النارُ، لأنه جواب لسؤال مقدر ؛ و " يُعْرَضَونَ " على هذين الوجهين يجوز أن يكون حالاً من " النار "، ويجوز أن يكون حالاً من " آل فرعون ".
الثالث : أنه مبتدأ، وخره :" يُعْرََضُونَ ".
وقُرِىءَ النَّارَ منصوباً، وفيه وجهان : أحدهما : أنه منصوب بفعل مضمر يفسره يعرضون من حيث المعنى أي يصلونَ النارَ يُعْرَضُونَ عليها كقوله :﴿وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ﴾ [الإنسان : ٣٢].
٦١