كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مَرِضَ، قيل للملك الموكل به : اكتُبْ له مثل علمه إذا كان طليقاً حتى أطلقه أو أكفته إليَّ ".
قوله تعالى :﴿قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ الآية قرأ ابنُ كثير أينكم لتكفرون ـ بهمزة وبعدها ياء محققة ساكنة بلا مد ـ والباقون ممدوداً مشدد النون.
وهو استفهام بمعنى الإنكار، أي كيف تكفرون بالله، وكيف يجوز جعل هذه الأنداد الخسيسة أنداداً لله مع أنه تعالى خلق الأرض في يومين، وهما يوم الأحد ويوم الاثنين، وتمم بقية مصالحها في يومين آخرين وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين، فمن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة كيف يعقل الكفر به، وإنكار قدرته على الحَشْر والنَّشر ؟ فإن قيل : مَن استدل بشيء على إثبات شيء فذلك الشيء المستدل به يجب أن يكون مسلماً عند الخصم حتى يصح الاستدلال به، وكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أمر لا يمكن إثباته بالعقل المحض إنا يمكن إثباته بالسمع ووحي الأنبياء والكفار كانوا منازعين في الوحي والنبوة، فلا يعقل تقرير المقدمة عليهم، وإذا امتنع تقريرها عليهم امتنع الاستدلال بها على فساد مذاهبهم.
فالجواب : إثبات كون السموات والأرض مخلوقةً بالعقل مُمكنٌ، وإذا أمكن ذلك أمن الاستدلال به على وجود الإله القادر القاهر العظيم.
وحنيئذ يقال : الكافر كيف يعقل التسوية بين الإله الموصوف بهذه القدرة القادرة وبين الصَّنم الذي هوة جمادٌ لا يضرُّ ولا ينفع في المعبودية والإلهية ؟ بقي أن يقال : فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه تعالى خالقاً للأرض في يومين أثر.
قال ابن الخطيب : بل له أثر في هذا الباب، وذلك أن التورية مشتملة على هذا المعنى، فكان ذلك في غاية الشهرة بين أهل الكتاب فكفار مكة كانوا يتعقدون في أهل الكتاب أنهم أصحاب العلوم، والظاهر أنهم كانوا قد سمعوا من أهل الكتاب هذه المعاني فاعتقدوا كونها حقاً، وإذا كان الأمر كذلك حَسن أن يقال لهم : إن الإله الموصوفَ بالقدرة على خلق هذه الأشياء العظيمة في هذه المدة اللطيفة كيف يليق بالعقل جع الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكاً له في المعبودية والإليهة ؟ ! فبهذا التقدير حسن الاستدلال.
قوله :" وَتَجْعَلُونَ لَهُ " عطف على " لَتَكْفُرُونَ " فهو داخل في حيز الاستفهام وقوله :﴿ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ أي ذلك الموجود الذي علمتَ من صفته وقدرته أن خلق
١٠٤
الأرض في يومين (هو رب العالمين وخالقهم ومبدعهم فكيف أثبتهم له أنداداً من الخشب والحجر ؟ ثمإنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقاً للأرض في يومين) ثم أخبر أنه أتى بثلاثة أنواعٍ من الصُّنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك، فالأول قوله :﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ وهذا مستأنف ولا يجوز عطفه على صلة الموصول، للفصل بينهما بأجنبي، وهو قوله :" وَتَجْعَلُونَ " فإنه معطوف على قوله :" لتكفرون " كما تقدم.
والمراد بالرواسي الجبال.
فإن قيل : ما الفائدة في قوله :" من فوقها " ولم يقتصر على قوله ﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ كما اقتصر على قوله ﴿وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ﴾ [المرسلات : ٢٧] وقوله ﴿وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ﴾ [الأنبياء : ٣١] وقوله :﴿وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ﴾ [الرعد : ٣].
فالجواب : أ، ه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التَّحتانيَّة هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، ولكنه تعالى قال : خُلِقَتْ هذه الجبال الثقال فوق الأرض ليرى الإنسان بعينه أنَّ الأرض والجبال أثقالٌ وكلها مفتقرة إلى مُمْسِكٍ وحافظٍ وما ذاك الحافظ المدبِّر إلا الله سبحانه وتعالى.
النوع الثاني : قوله " وَبَارَكَ فِيهَا " أي في الأرض بما خلق من البحار والأنهار والأشجار والثمار.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد شقَّ الأنهار، وخلق الجبال خلق الأشجار والنار، وخلق الجبال وخلق الأشجار والنار، وخلق أصناف الحيوانات، وكل ما يحتاج إليه من الخيرات.
النوع الثالث : قوله ﴿وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا﴾ قيل : المعنى وقدر فيها أقوات أهلِها ومعايشهم ما يصلحهم وقال محمد بن كعب : قدر أقوات الأبدان قبل أن يخلق الأبدان.
وقال مجاهد : وقدر فيها أقواتها من المطر.
وعلى هذا فالأقوات للأرض لا للسكان، والمعنى أن الله عزَّ وجلَّ قدر لكل أرض حظَّها من المطر.
وقيل المراد من إضافة القُوت إلى الأرض كونها متولدة في تلك الأرض وحادثة فيها ؛ لأن النحاة قالوا في حسن الإضافة أدنى سبب فالشيء قد يضاف إلى فاعله تارة، وإلى محله أخرى، فقوله " وقدر فيها أقواتها " أي قدر الأقوات التي يختص حدوثها بها، وذلك لأنه تعالى جعل كل بلدة معدناً لنوع آخر من الأشياء المطلوبة بمعنى أن أهل هذه البلدة يحتاجون إلى الأشياء المتولدة في ذلك البلد وبالعكس فصار هذا المعنى سبباً لرغبة الناس في التجارات واكتساب الأموال.
١٠٥