ذلك.
والدُّخان : هو ما ارتفع عن لهب النار.
ويستعار لما يرى من بُخار الأرض عند جدبها وقياس جمعة في القلة أَدْخِنَةٌ وفي الكثرة دُخْيَان، نحو : غُرابٍ وأغربة وغِرْبَانٍ وشذوا في جمعه على : دَوَاخِن، قيل : هو جمع داخِنةٍ تقديراً على سبيل الإسناد المجازيّ، ومثله عثانٌ وعواثِن.
وقوله : و " هِيَ " دُخَان " من باب التشبيه الصُّوري ؛ لأن صورتها صورة الدُّخانِ في رأي العين.
فصل قال المفسريون : هذا الدخان بُخار الماء وذلك أن عرش الرحمن كان على الماء قبل خقل السموات والأرض، كما قال تعالى :﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ﴾ [هود : ٧].
ثم إن الله تعالى أحدث في ذلك الماء اضطراباً فأزْبَدَ وارتفع، وخرج منه دُخانٌ فأما الزَّبدُ فبقي على وجه الماء فخلق منه اليبوسة وأحدثَ منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق منه السَّموات.
فإن قيل : قوله تعالى ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخان﴾ يُشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض، وقوله تعالى ﴿وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا﴾ [النازعات : ٣٠] يشعر بأن تخليص الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض! فالجواب : المشهور أن يقال : إنه تعالى خلق الأرض أولاً، ثم خَلَقَ بعنده السماء، ثم بعد أن خَلَقَ السماء دحى الأرض، وبهذه الطريق يزول التناقض.
قال ابن الخطيب : وهذا الجواب عندي مُشكِلٌ من وجوه : الأول : أنه تعالى خَلَقَ الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث جعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود، إلا بعد أن صارت الأرض منبسطة ثم إنه تعالى قال بعد ذلك :﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ﴾ فهذا
١٠٨
يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض، وبعد أن جعلها مدحُوَّةً وحينئذ يعود السؤال.
الثاني : أنه ورد أنَّ الدلائل الهندسية دلَّت على أن الأرض كرةٌ في أول حدوثها إن قلنا : إنها كرة، والآن بقيتْ كرة أيضاً فهي منذ خقلت كأنها مدحُوَّةٌ، وإن قلنا : إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال : إنها كانت مدحُوَّةً قبل ذلك، ثم أزيل عنها هذه الصفة وذلك باطل.
الثالث : أن الأرض جسمٌ في غاية العِظم والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحوَّا، فالقول بأنها كانت غير مدحوةٍ ثم صارت مدحوة قولٌ باطل.
والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت من موضع الصّخرة ببيت المقدس فهو كلام مشكل لأنه إذا كان المراد أنها على عظمها خلقت من ذلك الموضع ثم خلق بقيةُ أجزائها، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولاً فهذا يكون اعترافاً بأن تخليق الأرض وقع متأخراً عن تخليق السماء.
الرابع : أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين، وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام، فإذا حصل دَحْوُ الأرض بعد ذلك فقد حصل هذال الدحو في زمانٍ آخر بعد الأيام الستة فحينئذ يقع تخليق السموات والأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل.
الخامس : أنه لا نزاع في أن قوله تعالى بعد هذه الآية :﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ كناية عن إيجاد السموات والأرض، فلو تقدم إيجاد السمات لكان قوله تعالى :﴿ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً﴾ يقتضي إيجاد الموجودات، انه محال باطل.
هذا تمام البحث عن هذا المبحث.
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق السماء قبل الأرض، وتأول قوله :﴿ثمَّ استوى إلى السماء﴾ ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دُخان قبل أن يخلق الأرض، فأضمر فيه كما قال تعالى :﴿قَالُوا ااْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ﴾ [يوسف : ٧٧] معناه إن يكن سرق، وقال تعالى :﴿وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا﴾ [الأعراف : ٤] (والمعنى) فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي قال ابن الخطيب وهذا عندي ضعيف، لأن تقدير الكلام ثُمَّ كان قد استوى إلى السماء.
هذا جمعين الضدين لأن كلمة " ثُمَّ " تقتضي التأخير، وكلمة " كان " تقتضي التقديم، والجمع بينهما يفيد التناقض، وإنما يجوز تأويل كلام الله بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض والركاكة فيه.
والمختار عندي إن يُقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض، وتأويل الآية أن
١٠٩


الصفحة التالية
Icon