عامر بن الحضرمي وكان يهوديًّا أعجمياً يكنى أبا فكيهة، فقال المشركون : إنما يعلمه يسار فضربه سيده وقال : إنك تعلِّمُ محمداً فقال يسار : هو يعلّمني، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن الخطيب : نقلوا في نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت قالوا : هلا نزل القرآن بلغة العجم فنزلت هذه الآية.
وعندي : أن أمثال هذه الكلمات فيها حذف عظيم على القرآن، لأن يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض، وأنه يوجب أعظم أنواع الطعن فكيف يتم مع التزام مثل هذه الطعن ادعاه كونه كتاباً منتظماً ؟ ! فضلاً عن ادِّعاء كونه معجزاً ؛ بل الحق عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد على ما حكى الله عنهم من قولهم ﴿قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذننا وقر﴾ وهذا الكلام متعلق به أيضاً وجوب له والتقدير : إنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكانه لهم أن يقولوا : كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب ؟ ويصح لهم أن يقولوا : قلوبنا في أكنة من هذا الكلام، وفي آذاننا وقر منه لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه.
أما لمَّا نزل هذا الكتاب بلغة العرب وبألفاظهم وأنتم من أهل هذه اللغة فيكف يُمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها وفي آذانكم وقر منها ؟ ! فظهر أنا إذا جعلنا هذا الكلام جواباً عن ذلك الكلام بقيت السورة من أولها إلى آخرها على أحسن وجوه النظم، وأما على الوجه الذي يذكره الناس فهو عجيبٌ جدًّا.
قوله :﴿قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ﴾ أي قل يا محمد هو يعني القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء هدى من الضلالة وشفاء لما في القلوب.
وقيل : شفاءٌ من الأوجاع.
قال ابن الخطيب : هذا متعلق بقولهم :﴿قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾..
الآية [فصلت : ٥] كأنه تعالى يقول : إن هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكمخ لا بلغة أجنبية عنكم فلا يمكنكم أن تقولوا قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا هذه اللغة فكل من أعطاه الله تعالى طبعاً مائلاً إلى الحق، وقلباً داعياً إلى الصدق وهمَّةً تدعوه إلى بذل الجهد في طلب الدين فإن هذا القرآن يكون في حقه هُدًى وشفاء.
أما كونه هدى فإنه فإنه أذا أمكنه الاهتداء فقد حصل الهدى، وذلك شفاء لهم من مرض الكفر والجهل، وأما من غرق في بحر الخِذْلان وشغف بمتابعة الشيطان فكأنَّ هذا القرآن عليهم عَمًى، كما قال :﴿وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ﴾ [فصلت : ٥] أولئك يُنادون من كان بعيدٍ بسبب ذلك الحجاب الحائل بينه وبين الانتفاع ببيان القرآن وكل من أنصف ولم يتعسف علم أن التفسير على هذا الوجه الذي ذكرناه أولى مما ذكروه ؛ لأن السورة تصير من
١٥٠
أولها إلى آخرها كلاماً واحداً منتظماً منسوقاً نحو غرض واحد.
قوله :﴿وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون مبتدأ و " في آذانِهِم " خبره و " وَقْرٌ " فاعل، أو " في آذَانِهِم " خبر مقدم و " وقر " مبتدأ مؤخر، فالجملة خبر الأول.
الثاني : أن " وقراً " خبر مبتدأ مضمر، والجملة خبر الأول، والتقدير والذين لا يؤمنون هو وقر في آذانهم.
لما أخبر عنه بأنه هدى لأولئك أخبر عنه أنه وقر في آذان هؤلاء وعمًى عليهم، قال معناه الزمخشري.
ولا حاجة إلى الإضمار مع تمام الكلام بدونه.
الثالث : أن يكون " الذين لا يؤمنون " عطفاً على " الذين آمنوا " و " وَقْرٌ " عطف على " هُدى ".
وهذا باب العطف على معمولي عاملين وفيه مذاهب تقدم تحريرها.
قوله :" عَمًى " العامة على فتح الميم المنونة، وهو مصدر لعَمِي يَعْمَى عَمًى، نحو : صَدِيَ يَصْدَى صَدًى وهَوِيَ يَهْوَى هَوًى.
وقرأ ابن عباس، وابن عمر، وابن الزُّبير وجماعةٌ عم بسكرهنا منونة اسماً منقوصاً، وصف بذلك مجازاً.
وقرأ عمرو بن دينار، ورُبيت عن ابن عباس :" عَمِيَ " بكسر الميم وفتح الياء فعلاً ماضياً.
وفي الضمير وجهان : أظهرهما : أنه القرآن.
والثاني : أنه للوقر، والمعنى يأباه و " في آذانهم " إن تجعله خبراً تعلق بمحذوف على أنه حال منه لأنه صفة في الأصل، ولا يتعلق به لأنه مصدر، فلا يتقدم معموله عليه وقوله :﴿وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى﴾ كذلك في قراءة العامة وأما في القراءتين المتقدمتين فيتعلق " على " بما بعده إذ ليس بمصدر.
قال أبو عبيد : والأولى هي الوجه، لقوله :﴿هُدًى وَشِفَآءٌ﴾ وكذلك " عمى " وهو مصدر مثلهما ولو كان المذكور أنه هادٍ وشافٍ لكان الكسر في " عَمِيَ " أجود، فيكون نعتاً لهما.
فصل قال قتادة : عَمُوا عن القرآن وصمُّوا عنه، فلا ينتفعون به.
{أولئك ينادون من مكان.
١٥١