قال ابن قتيبة : العرب تٌقِيمُ المِثْلَ مُقَامِ النَّفْس فتقول :" مِثْلِي لاَ يُقَالُ لَهُ هَذَا " أي أنا لا يقال لي.
قيل : ونسبة المثل إلى من لا مثل له قولك : فلانٌ يده مبسوطةٌ، يريد : أنه جواد، ولا نظير له في الحقيقة إلى اليد حتى تقول ذلك لمن لا يد له كقوله :﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ [المائدة : ٦٤].
الرابع : أن يراد بالمثل الصفة، وذلك أن المثل بمعنى المثل، والمثل الصفة كقوله ﴿مَّثَلُ الْجَنَّةِ﴾ [محمد : ١٥]، فيكون المعنى ليس مثل صفته تعالى شيء من التي لغيره (وهو مَحْمِلٌ سَهْلٌ).
فصل قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ معناه ليس له نظير " وهو السميع البصير " أي سامعاً للمسموعات بصيراً للمرئيات.
فإن قيل : قوله :﴿وهو السميع البصير﴾ يفيد الحصر، فما معنى هذا الحصر مع العباد أيضاً موصوفون بكمونهم سميعين بصيرين ؟ !.
فالجواب :" السمعي البصير " لفظان مشرعان بحصول هاتين الصفتين على سبيل الكمال والكمال في كل الصفات وليس إلا الله، فهذا هو المراد من هذا الحصر.
قوله تعالى :﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ أي مفاتيح الرزق في السموات والأرض، قال المفسرون : مفاتيح السموات : الأمطار.
ومقاليد الأرض : النبات وتقدم الكلام على المقاليد في الرمز.
﴿يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ﴾ لأن مفاتحي الأرزاق بيده ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من البسط والتقدير " عَلِيمٌ ".
١٧٥
قوله تعالى :﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ...
الآية لمَّا عظم وحيه إلى محمد ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ بقوله :﴿كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم﴾ ذكر في هذه الآية تفصيل ذلك فقال :﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً﴾ أي بين لكم من الدين يا أصحاب محمد ما وصى به نوحاً وهو أول أنبياء الشريعة.
قال مجاهد : أوصيناك وإياه يا محمد ديناً واحداً ﴿وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ من القرآن وشرائع الإسلام ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ﴾ إنما خص هؤلاء الأنبياء الخمسة بالذكر لأنهم كانوا أكابر الأنبياء وأصحاب الشرائع العظيمة والأتباع الكثيرة.
واختلوفا في الموصى به، فقال قتادة : تحليل الحلال وتحريم الحرام، وقال الحكم : تحريم الأمهات والبنات والأخوات.
وقال مجاهد : لم يبعث الله تعالى نبياً إلى وهداه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإقرار لله بالطاعة، فذلك دينه الذي شرع لهم.
وقيل : هو التوحيد و البراءة من الشرك.
وقيل : هو ما ذكر من بعد في قوله :﴿أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ بعث الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة.
فصل قال ابن الخطيب : في لفظ الآية إشكالات : أحدهما : قال في أول الآية :﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً﴾ وفي آخرها :﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ﴾ وفي وسطها ﴿وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ﴾ فما فائدة هذا التفاوت ؟ وثانيها : ذكر نوحاً على سبيل الغيبة فقال :﴿مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً﴾ وقال ﴿وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ﴾.
وثالثها : تقدير الآية شرع لكم من الدين الذي أوحينا إليك ؟ وهذا يقتضي الجمع بين خطاب الغيبة وخطاب الحضور في الكلام الواحد بالاعتبار الواحد، وهو مشكل، وهذه مضايق يجب البحث عنها والقوم ما داروا حولها بالجملة.
واعلم أن المقصود من الآية أن يقال : شرع لكم من الدين ديناً تطابقت الأنبياء على صحته، فيجب أن يكون المراد من هذا الدين شيئاً مغايراً للتكاليف والأحكام ؛ لأنها مختلفة متفاوتة، قال تعالى :﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة : ٤٨] فوجب أن يكون المراد منه (الأمور) التي لا تخلتف باختلاف الشرائع، وهو الإيمان بالله، وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، (وأصول الدين).
١٧٦


الصفحة التالية
Icon