ومعنى الآية أنه تعالى أنزل الكتاب المشتمل على الدلائل والبيِّناتم وأنزل الميزان وهو الفصل الذي هو القسطاس المستقيم وأنهم لا يعلمون أن القيامة حق يفاجئهم، ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجتهد في النظر والاستدلال، ويترك طريقة أهل الجهل والتقليد.
ولما كان الرسول ـ عليه الصَّلاة والسَّلام ـ يهددهم يوم القيامة ولم يروا لذلك أثراً قالوا على سبيل السخرية متى تقوم الساعة ؟ وليتها قامت حتى يظهر لنا الحقّ أهو الذي نحن عليه أم الذي عليه محمد وأصحابه ؟ !.
قوله :﴿لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ إنما ذكر " قريب " وإن كان صفة لمؤنث لأن الساعة في معنى الوقت أو البعث أو على معنى النَّسب أي ذات قُرْبٍ، أوعلى حذفق مضاف، أي مجيء الساعة.
وقيل للفرق بينها وبين قاربة النسب.
وقيل : لأن تأنيثها مجازي نقله مكي.
وليس بشيء، إذ لا يجوز : الشمسُ طالعٌ، ولا القِدْرُ فائِرٌ، وجملة الترجي أو الإشفاق معلِّقة للدراية.
وتقدم مثله آخر الأنبياء.
فصل قال مقاتل : ذكر النبي ـ ﷺ ـ الساعة وعنده قوم من المشركين فقالوا مستهزءين : متى تكون الساعة ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية :﴿يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا﴾ ظناً منهم أنهم غير آتية ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ مُشْفِقُونَ﴾ خائفون ﴿مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ﴾ أي أنها آتية لا ريب فيها، ثم قال :﴿أَلاَ إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ﴾ يخاصمون.
وقيل : يدخلهم المرية والشك في " وُقُوع الساعة " لفي ضلالٍ بعيدٍ ؛ لأن استيفاء حقِّ المظلوم من الظالم واجب في العدل فلو لم تحصل القيامة لزم إسناد الظلم إلى الله عز وجل، وهذا من أمحل المحالات، فلا جرم كان إنكار القيامة ضلالاً بعيداً.
قوله تعالى :﴿اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ﴾ قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ : حفيٌّ
١٨٢
بهم.
وقال عكرمة : بارٌّ بهم.
وقال السديّ : رفيق بهم.
وقال مقاتل : لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم بدليل قوله :﴿بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ﴾ وكل من رزقه الله من مؤمن وكافرٍ وذي روحٍ فهو ممَّن يشاءُ الله أن يرزقه.
قال جعفر الصادق : اللطيف في الرزق من وجهين : أحدهما : أنه جعل رزقك من الطيبات.
الثاني : أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة.
و " هو القوي " القادر على ما يشاء " العزيز " الذي لا يغالب.
فصل إنما حسن ذكر هذا الكلام هاهنا ؛ لأنه أنزل عليهم الكتاب المشتمل على هذه الدلائل اللطيفة، فكان ذلك من لطف الله (تعالى) بعباده، وأيضاً فالمتفرقون استوجبوا العذاب الشديد.
ثم إنه تعالى آخر عنهم ذلك العذاب فكان ذلك أيضاً من لطف الله تعالى، فلما سبق ذكر إيصال أعظم المنافع إليهم (و) دفع أعظم المضارِّ عنهم لا جرم حسن ذكره هاهنا.
قوله :﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ...
الآية الحرث في اللغة الكسب، أي من كان يريد بعمله الآخرة نزد له في حرثه بالتضعييف بالواحد عشرة إلى ما شاء الله من الزيادة.
قال مقاتل.
وقيل : معناه إنا نزيد في توفيقه وإعانته وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه.
وقال الزمخشري : إنه تعالى سمَّى ما يعمله العامل مما يطلب به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز.
واعلم أنه قد تقدم أن كون الشرط ماضياً والجزاء مضارعاً مجزوماً لا يختص مجيئه بكان خلافاً لأبي الحكم مصنِّف كتاب الإعراب فإنه قال : لا يجوز ذلك إلا مع " كان " إلا في ضرورة شعر.
وأطلق النحويون جواز ذلك وأنشدوا بيت الفرزدق :
١٨٣
٤٣٧٨ـ دَسَّتْ رَسُولاً بِأَنَّ القَوْمَ إنْ قَدَرُوا
عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُوراً ذَاتِ تَوْغِيرِ
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ١٨١
وقوله أيضاً : ٤٣٧٩ـ تَعَشَّ فَإِنْ عَاهَدْتَني لاَ تَخُونِنِي
نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ


الصفحة التالية
Icon