والثاني : أنه مضمر، فقدره بعضهم ضمير التمني، المدلول عليه بقوله :" يَا لَيْتَ بَيْنِي " أي لن ينفعكم تمنيكم البُعْد.
وبعضهم : لن ينفعكم اجتماعكم.
وبعضهم : ظلمكم، وجحدكم.
وعبارة من عبّر بأن الفاعل محذوف مقصوده الإضمار المذكور لا الحذف ؛ إذ الفاعل لا يحذف إلا في مواضع، ليس هذا منها وعلى هذا الوجهه يكمون قوله :" أنكم " تعليل، أي لأنَّكُمْ،
٢٦٤
فحذف الخافض، فجرى في محلها الخلاف، أهو نصب أم جر ؟ ويؤيد إضمار الفاعل لا أنه هو إنكم قراءة إنكم بالكسر فإنه استئناق مفيد للتعليل.
قوله :" إذْ ظَلَمْتُمْ " قد استشكل المعربون هذه الآية، ووجهه هو أن قوله (اليوم) ظرف حالي و " إذْ " ظرف ماض، و " ينفعكم " مستقبل، لاقترانه بلن، التي لنفي المستقبل، والظاهر أنه عامل في الظَّرْفَيْنِ، وكيف يعمل الحدث المستقبل الذي لم يقع بعد في ظرف حاضر أو ماض ؟ ! هذا ما لا يجوز.
وأجيب : عن إعماله في الظرف على سبيل قربه منه، لأنَّ الحال قريب من الاستقبال، فيجوز في ذلك، قال تعالى :﴿فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ﴾ [الجن : ٩]، وقال الشاعر : ٤٤٠٧ـ.....................
سَأسْعَى الآنَ إِذْ بَلَغَتْ إنَاهَا
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٢٥٩
وهو إقناعي، وإلا فالمستقبل يستحيل وقوعه في الحال عقلاً.
وأما قوله :" إذْ " ففيها للناس أوجه كثيرة : قال ابن جني : راجعت أبا علي فيها مراراً، وآخر ما حصلت منه أن الدنيا والآخرة متصلتان، وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه.
" فَإِذْ " بدل من " اليوم " حتى كأنه مستقبل، أو كأن اليوم ماض.
٢٦٥
وإلى هذا نحا الزمخشري، قال :" وإذْ بدل من اليوم " وحمله الزمخشري على معنى إذ تَبَيَّنَ وصح ظلمكم ولم يبق لأحدٍ لكم شُبْهَة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره : ٤٤٠٨ـ إِذَا انتَسَبْنا لَمْ تَلِدْنِي لئيمةٌ
.....................
أي شتبين أني ولد كريمة.
قال أبو حيان : ولا يجوز البدل ما دامت إذ على موضوعها من المُغَيَّا فإن جعلت لمطلق الزمان جاز.
قال شهاب الدين :" لم يُعْهد في إذ أنها تكون لمطلق الزمان بل هي موضوعة لزمان خاص بالمضي كَأَمْسِ.
الثاني : أن في الكلام حذفل مضاف تقديره :" بَعْدَ إِذْ ظَلَمْتُمْ ".
الثالث : أنها للتعليل، وحينئذ تكون حرفاً للتعليل كاللاّم.
الرابع : أن الفاعل في " إذ " هو ذلك الفاعل المقدر، لا ضميره، والتقدير : ولن يَنْفَعَكُمْ ظلمُكُم أو جُحُودكم إذْ ظَلَمْتُمْ.
الخامس : أن العامل في إذْ ما دل عليه المعنى كأنه قال : ولكن لن ينفعكم اجتماعُكُمْ إذْ ظَلَمْتُمْ.
قاله الحَوْفيُّ.
ثم قال : وفاعل ينفعكم الاشتراك انتهى.
وظاهر هذا متناقض، لأنه جعل الفاعل أولاً اجتماعكم ثم جعله أخِراً الاشتراك.
ومنع أن يكون " إذْ " بدلاً من " اليوم " لِتَغَايُرِهما في الدَّلالة.
وفي كتاب أبي البقاء : وقيل : إذْ بمعنى " إنْ " أي إن ظلمتم.
ولم يقيدها بكونها
٢٦٦
أَن بالفتح أو الكسر.
ولكن قال أبو حيان :" وقيل : إذ للتعليل حرف بمعنى أَنْ، يعني بالفتح.
وكأنه أراد ما ذكره أبو البقاء إلا أن تسميته " أَنْ " للتعليل مجازاً، فَإِنَّها على حذف حرف العلة أي لأَنْ، فلمصاحبتها لها والاستغناء بها عنها سمَّاها باسمها.
ولا ينبغي أن يعتقد أنها في كتاب أبي البقاء بالكسر على الشرطية، لأن معناه بعيدٌ.
وفي كتاب مجاهِدٍ : أن ابن عامر قرأ : إنكم بالكسر، على الاستئناف المفيد للعلة وحينئذ يكون الفاعل مضمراً على أحد التقادير المذكورة.
فصل المعنى :﴿وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ﴾ في الآخرة " إذْ ظَلَمْتُمْ " أشركتم في الدنيا ﴿أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ أي لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم ؛ لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحَظَّ الأوفر من العذاب.
وقال مقاتل : لن ينفعكم الاعتذار والندم اليومَ، فأنتم وقرناؤكم اليوم مشتركون في العذاب، كما كنتم في الدنيا تشتركون.
واعلم أنه تعالى بين أن الشركة في العذاب لا تفيد التخفيف، كما كان يفيده في الدنيا، والسبب فيه وجوه : الأول : أن ذلك العذاب الشديد عظيم، واشتغال كل واحد بنفسه يذهله عن حال الآخر، فلا جَرَمَ لم تفد الشركة خفةً.
الثاني : إذا اشترك الأقوام في العذاب، أعان كل واحد منهم صاحبه بما مقدر عليه ليحصل بسببه بعض التخفيف.
وهذا المعنى متبدّد في القيامة.
الثالث : أن جلوس الإنسان مع قرينه يُفيده أنواعاً كثيرة من السلوة.
فبين تعالى أن الشيطان وإنْ كَانَ قريناً له، إلا أن مجالسته في القيامة لا توجب السلوة وخفة العقوبة ؟ قوله (تعالى) :﴿أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ...
﴾ لما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم في هذه الآية بالصمَمِ والعَمَى.
وما أحسن هذا الترتيب، وذلك أن الإنسان في أول اشتغاله يطلب الدنيا يكون كمن حصل بعينه رَمدٌ ضعيف، ثم لما كان اشتغاله بتلك الأعمال أكثر كان مَيْلُهُ إلى الجُسمانيَّات أشد، وإعراضه عن الروحانيات أكمل ؛
٢٦٧