(رضي الله عنهم) عن قوله :﴿إنَّا أنزلناه في ليلة مباركة﴾ وقوله :﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ [القدر : ١] كيف يصح ذلك مع أن الله تعالى أنزل القرآن في جميع الأيام ؟.
فقال ابن عباس : يا ابن الأسود لو هكلتُ أنا ووقع في نفسك هذا، ولم تجد جوابه لهلكت، نزنل القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت المعمور في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالاً.
قال قتادة وابن زيد : أنزل الله القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا، ثم انزل به جبريلُ على النبي ـ ﷺ ـ نجوماً في عشرينَ سنةً.
قوله :﴿إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ﴾ يعني إن الحكمة في إنزال القرآن أن إنذارَ الخلق لا يتم إلا به.
قوله :" فِيهَا " أي في الليلة المباركة " يُفرقُ " يُفصَلُ ﴿كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ محكم ومعناه ذو الحكمة، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل واحد بحالة معينة من الأجل والرزق والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله عز وجل، فلما دلت تلك الأقضية على حكمة فاعلها، وصفت بكونها حكمة، وهذا إسناد مجازيّ لأن الحكيم صفة صابح الأمر على الحقيقة، ووصف الأمر به مجاز.
قال ابن عباس : يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير، والشر، الأرزاق، والآجال حتى الحُجَّاج يقال : يَحُجُّ فلانٌ ويَحُجُّ فلان.
وقال الحسن ومجاهد وقتادة : يُبْرَمُ في ليلة القدر في شهر رمضان كل أجل، وعمل، وخلق، ورزق، وما يكون في تلك السنة.
وقال عكرمة : هي ليلة النصف من شعبان يقوم فيها أمر السنة، وتنسخُ الأحياء من الأموات، فلا يزاد فيهم، ولا ينقص منه أحد.
قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ :" تُقْطَع الآجَالُ مِنْ شَعْبَانَ إلَى شَعْبَانَ حَتَّى إنَّ الرَّجُلَ ليَنْكِحُ، ويُولدُ لَهُ، وَلَقْدَ أُخْرِج اسْمُهُ في المَوْتَى " وعن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ إن الله يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر وروي أن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، ووقع الفراغ في ليلة القدر، وتدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروف إلى جبريل، وكذلك الزَّلازِل، والصواعق، الخسف، ونَسخَة الأعمال إلى إسرافيل صابح سماء الدنيا، وهو ملك عظيم، ونسخة المصائب إلى ملك الموت.
قوله :" أَمْراً " فيه اثْنَا عَشَرَ وَجْهَاً : أحدهما : أن ينتصب حالاً من فاعل " أَنْزَلْنَاهُ ".
الثاني :(أنه) حال من مفعوله أي أنْزَلْنَاهُ آمرينَ، أو مَأمُوراً بِهِ.
الثالث : أن يكون مفعولاً له وناصبه إمَّا " أَنْزَلْنَاهُ " وإما " مُنْذِرِينَ " وإما " يُفْرَقُ ".
الرابع : أنه مصدر من معنى يفرق أي فَرْقاً.
الخامس : أنه مصدر " لأَمْرَنَا " محذوفاً.
السادس : أن يكون يُفْرَقُ بمعنى يأمر.
والفرق بين هذا وما تقدم أنك رددت في هذا بالعامل إلى المصدر، وفميا تقدم بالعكس.
السابع : أنه حال من " كُلُّ ".
حكى أبو علي الفارسي عن " أبي) الحسن أنه حمل قوله :" أمْراً " على الحال، وذُو الحال " كل أمر حكيم ".
الثامن : أنه حال من " أَمْرٍ ".
وجاز ذلك ؛ لأنه وصف ؛ إلا أن فيه شيئين : مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع المذكورة.
والثاني : أنها مؤكدة.
التاسع : أنه مصدر لأَنْزَلَ، أي (إنَّا) أَنْزَلْنَاهُ إِنْزَالاً، قاله الأخفش.
٣١١
العاشر : أنه مصدر لكان بتأويل العامل فيه إلى معناه، أي أَمَرْنَا به أَمْراً بسبب الإنْزَال، كما قالوا ذلك في وجهي :" فِيهَا يُفْرَقُ " فرقاً، أو يَنْزِلُ إنزالاً.
الحادي عشر : أنه منصوب على الاختصاص، قاله الزمخشري.
ولا يعني بذلك الاختصاص الاصطلاحي فإنه لا يكون نكرةً.
الثاني عشر : أن يكون حالاً من الضمير في " حَكِيمٍ ".
الثالث عشر : أن ينتصب مفعولاً به بمُنْذِرينَ، كقوله :﴿لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً﴾ [الكهف : ٢] ويكون المفعول الأول محذوفاً أي مُنْذِرينَ الناسَ أمراً، والحاصل أن انتصابه يرجع إلى أربعة أشياء : المفعول به والمفعول له، والمصدريةِ، والحاليةِ، وإنما التكثير بحسب المحالِّ.
وقرأ زيد بن علي : أَمْرٌ بالرفع.
قال الزمخشري : وهي تُقَوِّي النصب على الاختصاص.
قوله :" مِنْ عِنْدنَا " يجوز أن يتعلق " بيُفْرَقُ " أي من جهتنا وهي لابتداء الغاية مجازاً.
ويجوز أن تكون صفة لأمراً.
قوله :﴿إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ﴾ جواب ثالث، أو مستأنف، أو بدل من قوله : إنا كمنا منذرين.
قال ابن الخطيب : أي إنا فعلنا ذلك الإنذار لأجل أَنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ، يعني الأنبياء.
قوله :" رَحْمَةً " فيها خمسة أوجه : الأول : المفعول له والعامل فيه : إما " أنزلناه "، وإما " أمراً "، وإما " يفرق "، وإما " منذرين ".
الثاني : مصدر بفعل مقدراً، أي رَحِمْنَا رحمة.
٣١٢


الصفحة التالية
Icon