تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَآ أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَآءِ مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَآءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة : ١٦٤].
فذكر الله تعالى هذه الأقسام الثمانية من الدلائل، والتافوت بين الوصفين من وجوه : الأول : أنه تعالى قال في سورة البقرة :﴿إنَّ في خلق السموات والأرض﴾ وقال ههنا :﴿إن في السموات والأرض﴾ والصحيح عند أهل السنة : إنَّ الخلق غير المخلوق، فذكر لفظ الخلق في سورة البقرة، ولم يذكره هَهُنَا تنبيهاً على أن لا تفاوت بين أن يفصل السموات أو خلق السموات فيكون هذا دليلاً على أن الخلق غير المخلوق.
الثاني : أنه ذكر هناك ثمانيةَ أنواع من الدلائل، وذكر ههنا سبعة أنواع من الدلائل، وأهمل منها الفلك والسحاب، والسَّبَبُ فيه أن مَدَار حركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة، فذكر الرياح التي هي كالسبب يغني عن ذكرهما.
الثالث : أنه جمع الكل وذكر لها مقطَعاً واحداً، وههنا رَتَّبَها على ثلاثة أنواع، والغرض منه التنبيه على أنه لا بدّ من إفراد كل احد منها بنظر تامٍّ سابقٍ.
الرابع : أنه تعالى ذكر في هذا الموضع ثلاثة مقاطع : أحدها : للمؤمنين، وثانيها :" يوقنون ".
وثالثها :" يعقلون ".
قال ابن الخطيب : وأظنُّ أن سبب هذا الترتيب أن قوله : إن كنتم من المؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين (بل أنتم من طلاب الجَزْم واليقين، فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين) ولا من المُوقِنِينَ فلا أَقَلَّ أن تكونوا من زُمْرَةِ العقلاْ فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل.
قوله تعالى :﴿تَلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا﴾ يجوز أن تكون " نتلوها " خبراً " لِتِلْكَ " و " آيَاتُ اللهِ "، بدل أو عطف بيان، ويجوز أن تكون " تِلْكَ آيَاتُ " مبتدأ وخبراًن و " نَتْلُوها " حال قال الزمخشري : والعامل ما دل عليه " تلك " من معنى الإرشاد ونحوه :﴿وَهَـاذَا بَعْلِي شَيْخاً﴾ [هود : ٧٢].
قال أبو حيان : وليس نحو لأن في " هَذَا بَعْلِي " حرف تنبيه ؛ فقيل : العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه أي تَنَبَّهْ وأما تلك فليس فيها حرف تنبيه، (فإذا كان حرف التنبيه عاملاً) بما فيه من معنى التنبيه لأن المعنى قد يعمل في الحال، فالمعنى تَنَبَّهْ لزيدٍ في حال شَيْخِه أو في حال قيامه.
٣٤٨
وقيل : العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه المعنى، أي انظر إليه في حال شيخه فلا يكون اسم الإشارة عاملاً ولا حرف التنبيه إن كان هناك.
قال شهاب الدين : بل الآية نحو : هَذَا بَعْلِي شَيْخاً من حَيْثِيَّةِ نسبة العمل لاسم الإشارة غاية ما ثَمَّ أن في الآية الأخرى ما يَصْلُحُ أن يكون عاملاً، وهذا لا يَقْدَح في التنظير إذا قصدت جهةً مشتركةً، وأما إضمار الفعل فهو مشترك في الموضعين عند من يرى ذَلِكَ قال ابن عطية : وفي " نَتْلُوها " حذف مضاف، أي نتلو شأنها وشرح العبرة فيها ويحتمل أن يريد بآيات الله القرآن المنزل في هذا المعنى، فلا يكون فيها حذفُ مضاف.
وقرأ بعضهم : يَتْلُوهَا بياء الغيبة، عائداً على الباري تعالى.
قوله :" بالْحَقِّ " حال من الفاعل، أي ملتبسين بالحق، أو من المفعول، أي ملتبسةً بالحق.
ويجوز أن تكون (الباء) للسببية فتتعلق بنفس " نَتْلُوهَا ".
قوله :﴿فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ﴾ قال الزمخشري : أي بعد آيات الله، فهو كقولك : أَعْجَبَنِي زَيْدٌ كَرَمُهُ، يريدون : كَرَمَ زَيْدٍ.
وردَّه عليه أبو حيان بأنه ليس مراداً، بل المراد إعجاباً، وبأنَّ فيه إقحاماً للأسماء من غير ضرورة، قال : وهذا قلب لحقائق النَّحْو.
وقرأ الحَرَمِيَّان وأبو عمرو وعاصمٌ ـ في رواية ـ " يُؤمِنُون " بياء الغيبة والباقون بتاء الخطاب.
و " فَبِأَيِّ " متعلق به، قدم لأن له صدر الكلام.
واختار أبو عبيد الياء، لأن فيه غيبة، وهو قوله :﴿يُوقِنُونَ﴾، و ﴿لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
فإن قيل : في أول الكلام خطاب، وهو قوله :﴿وَفِي خَلْقِكُمْ﴾ قُلْنَا : الغيبة أقرب إلى الحرف المُخْتَلَفِ فيه فكان أولى.

فصل ومعنى الآية أن من لم ينتفع بهذه الآيات، فلا شيء بعده يجوز أن ينتفع به.


وهذه
٣٤٩
الآية تبطل القول بالتقليد، وتوجب على المكلف على التأمل في دلائل دين الله.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٣٣٩


الصفحة التالية
Icon