قوله تعالى :﴿وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُواْ عَلَى النَّارِ﴾ فيقال لهم : أَلْيسَ هَذا بالْحَقِّ قَالُوا بَلَى فقوله : أليس هذا معمول لقول مضمر هو حال كما تقدم في نظيره.
والمقصود من هذا الاستفهام التهكم والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده.
فيقال لهم ﴿فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ﴾.
قوله تعالى :﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ الفاء في قوله " فَاصْبِر " عاطفة هذه الجملة على ما تقدم، والسببية فيها ظاهرة.
واعلم أنه تعالى لما قرر المَطَالِبَ الثَّلاثَة وهي التوحيد والنبوة وأجاب عن الشبهات أردفه بما يجري مجرى الوعظ والنصيحة للرسول ـ ﷺ ـ وذلك لأن كانوا يؤذونه ويُوجِسُون صدره فقال تعالى :﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ﴾ أي أُولو الجِدِّ والصَّبْر والثَّبَات وقال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما) ـ أولو الحَزْم.
قوله :﴿مِنَ الرُّسُلِ﴾ يجوز أن تكون من تبعيضية، وعلى هذا فالرُّسُلُ أَولُو عَزْم وَغيرُ أُولِي عَزْمٍ.
ويجوز أن يكون للبيان فكلهم على هذا أُولو عَزْم.
قال ابن زيد : كُلّ الرُّسُلِ كانوا أولى عزم ولم يبعث الله نبياً إلا كان ذَا عَزْم وحَزْمٍ، ورأي وكمال عقل.
وإنما دخلت مِنْ للتَّجْنِيس لا للتبعيض كما يقال اشتريت (أكسية) من الخَزِّ وأَرْدِيَةً من البزّ.
وقيل : الأنبياء كلهم أولو العزم إلا يُونُسَ لعجلة كانت منه، ألا ترى أنه قيل للنبي ـ ﷺ ـ :﴿وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ﴾ [القلم : ٤٨] وقيل هم نُجَبَاء الرسل، وهم المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لقوله بعد ذكرهم :" أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ فبهداهُم اقْتَدِهْ ".
وقال الكلبي : هم الذين أمروا بالجهاد، وأظهروا المكاشفة مع أعداء الدين وقيل : هم ستة : نوحٌ وهودٌ، وصالحٌ، ولوطُ، وشعيبٌ،
٤٢٠
ومُوسَى، وهم المذكورون على النَّسقِ في سورة الأعْراف والشُّعَرَاءِ.
وقال مقاتل : هم ستة، نوح صبر على أذى قومه، كانوا يضربونه حتى يُغْشَى عَلَيْه، وإبراهيم صَبَرَ على النار وذبْح الوَلَد، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب، صبر على فَقْد ولده، وذَهَابِ بصره، ويوسفُ صبر في الجُبِّ والسِّجْن، وأيوبُ صبر على الضُرِّ.
وقال ابن عباس وقتادة : هم نوح، وإبراهيم، وموسى وعيسى أصحاب الشرائع، فهم مع مُحَمَّد خمسة.
وقال البغوي : ذكرهم الله على التخصيص في قوله :﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ [الأحزاب : ٧] وفي قوله :﴿شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً﴾ [الشورى : ١٣] الآية روي أن النبي ـ ﷺ ـ قال لعائشة : يا عائشةُ إن الله لم يرض لاولي العزم إلا بالصّبر على مكروهها، والصبر على محبوبها لم يرضَ إلا ان كلفني ما كلفهم قال :﴿فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل﴾، وإني والله لا بدّ لي من طاعة، والله لأصبرنَّ كما صَبَرُوا وأَجْهَدَنَّ ولا قوة إلا بالله.
قوله :﴿وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ﴾ العذاب فإنه نازل بهم.
قيل : إن النبي ـ ﷺ ـ ضجر من قومه بعضَ الضَّجَر، وأحبَّ أن ينزل الله العذاب بمن أبى من قومه، فأمر بالصبر، وترك الاستعجال.
ثم أخبر أن ذلك العذاب إذ أنزل بهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى يحسبونها ساعة من نهار فقال :﴿كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ﴾ من العذاب ﴿لَمْ يَلْبَثُوا ااْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾ إذا عاينوا العذاب صار طُول لَبْثهِمْ في الدنيا والبْرزَخ كأنه ساعةٌ من النهار، أو كان لم يكن لهول ما عاينوا، لأن ما مضى وإن كان طويلاً صار كأنه لم يكن، قال الشاعر : ٤٤٦١ـ كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا مَضَى
كَأَنَّ شَيْئاً لَمْ يَكُنْ إذَا أَتَى
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٤١٤
واعلم أنه تم الكلام ههنا.
قوله :" بلاغ " العامة على رفعه.
وفيه وجْهَان : أحدهما : أنه خبر مبتدأ محذوف، فقدره بعضهم : تلكَ الساعةُ بلاغٌ، لدلالة قوله :﴿إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ﴾.
وقيل : تقديره هذا أي القرآن والشرع بلاغٌ من الله إليكم.
والثاني : أنه مبتدأ والخبر قله " لَهُمْ " الواقع بعد قوله ﴿وَلاَ تَسْتَعْجِل﴾ أي لهم بلاغ
٤٢١
فيوقف على " ولا تستعجل ".
وهو ضعيف جداً، للفصل بالجملة التشبيهية، ولأن الظاهر تَعَلُّق " لهم " بالاسْتِعْجَالِ فهو يشبه الهيئة والقطع.
وقرأ زيد بن علي والحسن وعيسى " بلاغاً " نصباً على المصدر أي بلِّغ بلاغاً.
ويؤيده قراءة ابن مِجْلَزِ " بَلِّغْ " أمراً.
وقرأ أيضاً " بَلَّغَ " فعلاً ماضياً.
ويؤخذ من كلام مَكِّيٍّ أنه يجوز نصبه نعتاً " لِسَاعَةِ " فإنه قال :" ولو قرىء بلاغاً بالنصب على المصدر، أو على النعت لساعة جاز ".
وكأنه لو لم يطلع على ذلك قراءة.
وقرأ الحسن أيضاً : بَلاَغٍ بالجر، ويُخَرِّج على الوصف لـ " نَهَار " على حذف مضاف أي من نهارٍ ذي بلاغ، أو وصف الزمان بالبلاغ مبالغةً.
والبلاغ بمعنى التَّبلْيغ.
قوله :" فهل يهلك " العام على بنائه للمفعول.
وابن محيصن يَهْلِكُ ـ بفتح الياء وكسر اللام ـ مبنياً للفاعل.
وعنه أيضاً فتح اللام وهي لغةٌ والماضي هَلِكَ، بالكسر.
قال ابن جني :" كُلٌّ مَرْغُوبٌ عَنْهَا ".
وزيد بن ثابت : بضم الياء وكسر اللام، فالفاعل هو الله تعالى.
﴿الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
نصباً على المفعول به.
وقرىء :" تَهْلِكُ " بالنو وكسر اللام ونب " الْقَوْم ".
فصل المعنى فهل يهلك بالعذاب إذا نزل إلاّ القَوْم الفاسقون الخارجون عن أمر الله قال الزجاج : تأويله لا يَهْلِكُ مع رحمة الله وفضْلِهِ إلاَّ القَوْم الفاسقون، ولهذا قال
٤٢٢
قومٌ : مَا فِي الرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ الله أقْوَى مِنْ هذه الآية.
روى أبيّ بن كعب (ـ رضي الله عنه) ـ قال : قال رسول الله ـ ﷺ ـ " مَنْ قَرَأَ سُورَة الأَحْقَافِ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ رَمْلٍ فِي الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ ومُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئاتٍ ورُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ " (اللَّهُمَّ تَوفَّنَا مُسْلِمِينَ).
٤٢٣
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٤١٤


الصفحة التالية
Icon