قوله :﴿وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ﴾ أي ينقصكم أو يفردكم عنها، فهو من وَتَرْتُ الرَّجُلَ إذا قتلت له قتيلاً أو نَهَبْتَ مَالَهُ.
أو من الوضتْر وهو الانفْراد.
وقيل : كلا المعنيين يرجع إلى الإفْراد، لأن من قُتَل له قتيل، أو نهبَ له مال فقد أفرد عينه فمعنى :" لن يتركم أعمالكم " لَنْ يَنْقُصكُمْ شيئاً من ثواب أعمالكم يقال : وَتَرَه يَتِرُهُ وَتْراً وترَةً إذَا نقصه حَقَّهُ.
قال ابن عباس : ـ (رضي الله عنهما) ـ وقتادة والضحاك : لن يَظْلِمَكُمْ أعمالكم الصالحة أن يؤتيكم أجورها.
ثم حضَّ على طلب الآخرة فقال :﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ باطل وغرور ﴿وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ﴾ الفواحش ﴿يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ﴾ جزاء أعمالكم في الآخرة ﴿وَلاَ يَسْأَلْكُمْ﴾ ربكم ﴿أَمْوَالَكُمْ﴾ لإتتاء الأجر بل يأمركم بالإيمان والطاعة ليثيبكم عليها الجنة.
نظيره قوله :﴿مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ﴾ [الذاريات : ٥٧].
وقيل : لا يسألكم محمد أموالكم نظيره :﴿قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ﴾ [ص : ٨٦].
وقيل : معنى الآية لا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها في الصدقات إنما يسألانِكم غيضاً من فيض رُبع العشر فطيبوا بها نفساً.
قاله ابن عُيَيْنَةَ.
ويدل عليه سياق الآية.
قوله :" فَيُحْفِكُمْ " عطف على الشرط و " تَبْخَلُوا " جاب الشرط.
قال ابن الخطيب : الفاء في قوله :" فَيُحْفِكُمْ " لِلإشارَة إلى أن الإحْفَاءَ يتبع السؤال لشُحِّ الأَنْفُس، وذلك لأن العطف بالواو قد يكون لمباينين وبالفاء لا يكون إلا للمتعاقبين، أو متعلقين أحدهما بالآخر فكأنه تعالى يبين أن الإحْفَاء يقع عقيبَ السؤال لأن الإنسان بمجرد السؤال لا يعطي شيئاً.
قال المفسرون : فيُحْفِكُمْ يُجْهِدُكم وبلحف عليكم بمسألة جميعها يقال : أَحْفَى فلانٌ فلاناً إذا جهده وَألحَفَ قلبهُ في المسألة.
قوله :﴿تَبْخَلُواْ وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ﴾ العامة على إسناد " يُخْرِجْ " إلى ضمير فاعل إما الله تعالى أو الرسول أو السّؤَال ؛ لأنه سبب وهو مجزوم عطفاً على جواب الشرط وروي عن أبي عمرو رفعه على الاستئنَافِ وقرأ أيضاً بفتح الياء وضم الراء ورفع " أَْضْغَانُكُمْ " فاعلاً.
٤٧٠
وابن عباس في آخرين وتَخْرُجْ ـ بالتاء من فوق وضم الراء ـ أضْغَانُكُمْ فاعل به.
ويعقوب وَنخْرِجْ بنون العظمة وكسر الراء أضْغَانَكُمْ نصباً.
وقرىء : وَيُخْرَجْ بالياء على البناء للمفعول أضْغَانُكُمْ رفعاً به.
وعيسى كذلك إلا أنه نصبه بإضمار أن عطفاً على مصدر متوهم أي بأن يُكَفَّ بُخْلُكُمْ وإخْرَاجَ أضغَانِكُمْ بُغْضُكُمْ وَعَدَاوَتُكُمْ.
فصل قال قتادة : علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأَضْغَان يعني ما طلبها ولو طلبها وألحَّ عليكم في الطلب لبخلتم كيف وأنتم تبخلون باليسير فكيف لا تبخلون بالكثير فيخرج أضغانكم بسببه.
فإن النبي ـ ﷺ ـ وأصحابه إذا طلبوا منكم وأنتم لمحبة الأموال وشُحِّ الأنفس تمتنعون فيفضي إلى القتال وتظهر به الضغائن.
ثم بين ذلك بقوله :﴿هَا أَنتُمْ هَاؤُلاَءِ﴾ قد طلبت منكم اليسير فيحكم فكيف لو طلبت منك الكل ؟ قوله :﴿هَا أَنتُمْ هَاؤُلاَءِ﴾ (قال الزمخشري : هؤلاء) موصول صلته " تدعون " أي أنتم الذين تدعون أو أنتم يا مخاطَبُون هؤلاء المؤمنون.
ثم استأنف وصفهم كأنهم قالو : وما وَصْفُنَا ؟ فقيل : تُدْعَوْنَ.
وقال ابن الخطيب :" هؤلاء " تحتمل وجهينِ : أحدهما : أن تكون موصولة كأنه قال : أنتم الذين تُدْعَوْنَ لتنفقوا في سبيل الله.
وثانيهما : هؤلاء وحدها خبر " أنتم " كما يقال :" : أنت (أنت و) أنت هذا تحقيقاً لشهرة والظهور أي ظهور أثركم بحث لا حاجة إلى الإخبار عنكم بأمْر مغاير.
وقد
٤٧١
تقدم الكلام على قوله :﴿هَا أَنتُمْ هَاؤُلاَءِ﴾ مُشْبَعاً في آلِ عِمْرَانَ.
وقوله :" تُدْعَوْنَ " أي إلى الإنفاق إما في سبيل الله بالجهاد وإما صرفه إلى المستحقين من إخوانكم.
قوله :﴿فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ﴾ بما فرض عليه من الزكاة ﴿وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ﴾ أي إن ضرر ذلك البخل عائد إليه فلا تظنوا أنهم ينفقون على غيرهم بل لا ينفقونه إلا على أنفسهم فإن من يبخل بأجرة (الطّبيب) وثمن الدواء وهو مريضٌ فلا يبخل إلا على نفسه ثم حقق ذلك بقوله :﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ﴾ أي غير محتاج إلى مالكم وأتمه بقوله :﴿وَأَنتُمُ الْفُقَرَآءُ﴾ إليه وإلى ما عنده من الخير حتى لا تقولوا بأنا أغنياء عن القتال ودفع حاجة الفقراء.
قوله :﴿يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ﴾ بَخِلَ وضنَّ يتعديان بـ " عَلَى " تارةً وبـ " عَنْ " أخرى.
والأجود أن يكون حال تعديهما بـ : عَنْ " مُضَمَّنَيْن معنى الإمساك.
قوله :﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ﴾ هذه الجملة (الجملة الشرطية عطف على) الشرطية قبلها.
و " ثُمَّ لاَ يَكُونُوا " عطف على " يَسْتَبْدِلْ ".
فصل ذكر بيان الاستغفار كما قال تعالى :﴿إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [فاطر : ١٦] قال المفسرون : إن تَتَوَلَّوْا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم.
قال الكلبي : هم كِنْدَةُ والنَّخْعُ.
وقال الحسن : هم العجم.
وقال عكرمة : فارس (والروم) لما روى أبو هريرة " أن رسول الله ـ ﷺ ـ تلا قوله تعالى :﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا ااْ أَمْثَالَكُم﴾ قال يا رسول الله : من هؤلاء الذين إن تولينا اسْتُبْدِلُوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا ؟ فضرب
٤٧٢
على فَخدِ سَلْمَانَ الفَارسيِّ ثم قال : هذا وقومه ولو كان الدين عند الثُّرَيَّا لتناوله ورجالٌ من الفرس.
وقيل : هم قوم من الأنْصارِ ".
فصل قال ابن الخطيب : ههنا مسألة، وهي أن النُّحَاةَ قالوا : يجوز في المعطوف على جواب الشرط " بالواو والفاء وثُمَّ " الجزم والرفع، تقول : إنْ تَأتِنِي آتِكَ فَأُخْبِرُكَ بالجزم والرفع جميعاً، قال الله تعالى ههنا ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ﴾ وقال ﴿ثُمَّ لاَ يَكُونُوا ااْ أَمْثَالَكُم﴾ بالجزم وقال في موضع آخر :﴿وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ﴾ [آل عمران : ١١١] بالرفع، لإثبات النون.
وفيه تدقيق : وهو أن قوله :" لاَ يَكُونُوا " متعلق بالتوالي ؛ لأنهم إن لم يَتَوَلَّوْا يَكُونوا مثلَ من يأتي بهم الله على الطاعة وإن تولوا لا يكونون مثلهم لكونهم عاصين وكون من يأتي بهم مطيعين.
وأما هناك سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون، فلم يكن التعلق هناك بما وقع بالابتداء وهنا جزم.
وقوله :﴿يَكُونُوا ااْ أَمْثَالَكُم﴾ في الوصف لا في الجنس.
روى أُبَيُّ بن كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ قال : قال رسول الله ـ ﷺ ـ " مَنْ قَرَأَ سُورَة مُحَمَّدٍ كَانَ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يَسْقِيهُ مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ " (صدق رسول اله ـ ﷺ وشرفَ وكرمَ).
٤٧٤
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٤٦٨


الصفحة التالية
Icon