وعلى هذا فهو مجاز ليس المراد نفس التقديم بل المراد لا تجعلوا لأنفُسكم تقدماً عند النبيّ ـ ﷺ ـ يقال : لفلان تقدم من بين الناس إذا ارتفع أمْرُهُ، وعَلاَ شَأْنُهُ.
وقرىء : لا تُقْدموا ـ بضم التاء و كسر الدال ـ من أقدم أي لا تُقْدِمُوا على شيءٍ.
فصل فصل في بيان حسن الترتيب وجوه : أحدهما : أنهم في السورة المتقدمة لما جرى منهم ميلٌ إلى الامتناع مما أجاز النبي ـ ﷺ ـ من الصلح، وألزمهم الله كلمة التقوى قال لهم على سبيل العموم : لا تقدموا بين يدي الله ورسوله أي لا تتجاوزوا ما أتى من الله تعالى ورسوله.
الثاني : أنه تعالى لما بين علو درجة النبي ـ ﷺ ـ بكونه رسوله الذي يظهر دينه وأنه بالمؤمنين رحيمٌ قال : لا تتركوا من احترامه شيئاً لا بالفعل ولا بالقول وانظروا إلى رفعة درجته.
الثالث : أنه تعالى وصف المؤمنين بأنهم أشداء ورحماء فيما بينهم وبكونهم راكعين ساجدين وذكر أن لهم من الحرمة عند الله ماأورثهم حسن الثناء في الكتب المتقدمة قوله :﴿ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ﴾ [الفتح : ٢٩]، فإن المَلكَ العظيم لا يذكر أحداً في غيبته إلا إذا كان عنده محترماً ووعدهم بالأجر العظيم فقال في يهذه السورة لا تفعلوا ما يوجب انْحِطَاط درجاتكم وإحباطَ حَسَنَاتِكم (ولا تقدموا).
فصل في سبب النزول روى الشعبي عن جابر أنه في الذبح يوم الأضحى قبل الصلاة وهو قال الحسن أي لا يذبحوا قيل أن يذبح النبي ـ ﷺ ـ وذلك أن ناساً ذبحوا قبل النبي ـ ﷺ ـ فأمرهم أن يُعِيدُوا الذَّبْحَ، وقال :" من ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُك فِي شَيْءٍ " وروي عن مسروق عن عائشة أنه في النهي عن صوم الشك أي لا تصوموا قبل أن يصوم نبيكم.
وروى ابن الزبير أنه قدم ركبٌ من بني تميم على النبي ـ ﷺ فقال أبو بكر : أمر القعْقَاع بن معبد بن زرارة.
وقال عمر : بل أمر الأقرعَ بن حابس.
قال أبو بكر : ما أردت إلا خلافي، قال عمر : ماأردت خلافَك فَتَمَارَيَا حتى ارتفعت أصواتهما فنزلت :﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله﴾ ؛ قال (ابن) الزبير : فكان
٥٢١
عمر لا يسمع رسول الله ـ ﷺ ـ (بعد هذه الآية) حتى يستفهمه.
وقيل : نزلت في جماعة أكثروا من السؤال.
وقال مجاهد : لا تَفْتَاتُوا على رسول الله ـ ﷺ ـ بشيء حتى يَقْضِيَهُ الله على لسانه.
وقال الضحاك : يعني في القتال وشرائع الدين، أي لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله.
قال ابن الخطيب : والأصحّ أنه إرشاد عام يشتمل الكل ومنع مطلق يدخل فيه كل افتِيَاتٍ وتقدُّم واستبدادٍ بالأمر وإقدامٍ على فعلٍ غيرِ ضروري من غير مُشَاوَرةٍ.
فصل ومعنى بين يدي الله ورسوله أي بحضرتهما ؛ لأن ما يحضره الإنسان فيهو بين يديه ناظر إليه.
وفي قوله :﴿بين يدي الله ورسوله﴾ فوائد : إِحْدَاهَا : أن قول الإنسان فلان بين يدي فلان إشارة إلى أن كل واحد منهما حاضر عند الآخر مع أن لأحدهما علو الشأن وللآخر درجة العبيد والغِلْمَان ؛ لأن من يجلس بجنب الإنسان يكلفه تَقْليب الحَدَقَة إليه وتحريك الرأس غليه عند الكلام ومن يجلس بين يديه لا يكلفه ذلك ولأن اليدين تنبىء عن القدرة لأن قول الإنسان : فلانٌ بين يدي فلان أي يُقَلِّبِه كيف يشاء في أشغاله كما يفعل الإنسان بما يكون موضوعاً بين يديه وذلك يفيد وجوب الاجْتِنَاب من التَّقَدُّم.
وثانيها : ذكر الله إشارة إلى وجوب احترام الرسول والانقياد لأوامره، لأن احترام الرسول احترام للمرسل، لكن احترام الرسول قد يترك لأجل بُعد المرسل وعدم اطّلاعه على ما يفعل برسوله فقوله :" بين يدي الله " أي أنتم بحضرة من الله وهو ناظر إليكم.
وفي مثل هذه الحال يجب احترام رسوله.
وثالثها : أن العبارة كما تقرر النهي المتقدم تقرر الأمر المتأخِّر، وهو قوله :" واتّقوا الله " لأن من يكون بين يدي الغير كالمتاع الموضوع بين يديه يقلبه كيف يشاء يكون جديراً بأن يتقيه، وقوله : وَاتَّقُوا الله " أي في تضييع حقه، ومخالفة أمره ﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ لأقوالكم، " عَلِيمٌ " بأفعالكم.
٥٢٢