قوله :﴿وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾ قال ابن الخطيب : إن قلنا :(إن) المراد من قوله :﴿لاَ تَرْفَعُوا ااْ أَصْوَاتَكُمْ﴾ أي لا تُكْثِرُوا الكلام فقوله :" ولاَ تَجْهَرُوا " يكون مجازاً عن الإتيان بالكلام عند النبي ـ ﷺ ـ بقدر ما يؤتى به عند غيره أي لا تكثروا وقللوا غاية التقليل، وإن قلنا : المراد بالرفع الخطاب فقوله :" لاَ تَجْهَرُوا " أي لا تخاطبوه كما تُخَاطِبُو(نَ) غيره.
واعلم أن قوله تعالى :﴿لاَ تَرْفَعُوا ااْ أَصْوَاتَكُمْ﴾ لما كان من جنس لا تجهروا لم يستأنف النداء، ولما كان مخالفاً للتقدم لكون أحدهما فعلاً والآخر قولاً استأنف كقول لقمان لابنه :﴿يا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ﴾ [لقمان : ١٣]، وقوله :﴿يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ﴾ [لقمان : ١٧] لكن الأول من عمل القلب والثاني من عمل الجوارح، فقوله :﴿يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [لقمان : ١٧] من غير استئناف النداء لكون الكل من عمل الجوارح.
فإن قيل : ما الفائدة من قوله :﴿وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِالْقَوْلِ﴾ مع أن الجهر مستافد من قوله :﴿لاَ تَرْفَعُوا ااْ أَصْوَاتَكُمْ﴾ ؟.
فالجواب : أن المنع من رفع الصوت هو أن لا يجعل كلامه أو صوته أعلى من كلام النبي ـ ﷺ ـ أو صوته، والنهي عن الجهر منع من المساواة، أي لا تجهروا له بالقول كما تَجْهَرُو(نَ) لنظرائكم بل اجعلوا كلمته عُلْيَا.
قوله :" أنْ تَحْبَطَ " مفعول من أجله.
والمسألة من التنازع لأن كلاًّ من قوله :" لاَ تَرْفَعُوا " و " لاَ تَجْهَرُوا لَهُ " يطلبه من حيث المعنى فيكون معمولاً للثاني عند البصريين في اختيارهم، وللأول عند الكوفيين.
والأول أصح للحذف من الأول أي لأن تَحْبَطَ.
وقال أبو البقاء : إنها لام الصّيرورةِ و ﴿وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ حال.
فصل معنى الكلام إنكم إن رفعتم أصواتكم وتقدمتم فذلك يؤدي إلى الاستحقار وهو يفضي إلى الارتداد والارتداد محبطٌ.
وقوله :﴿وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ إشارة إلى أن الردّة تتمكن من النفس بحيث لا يشعر الإنسان فإن من ارتكب ذنباً لم يرتكبه في عمره تراه نداماً غاية الندامة خائفاً غايةَ الخَوف، فإذا ارتكبه مراراً قلّ خوفه ونَدَامَتُه ويصير عادة
٥٢٥
من حيث لا يعلم متى تمكن هذا كان في المرة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو غيرها، وهذا كما إذا بلغه خبر فإنه لا يقطع بالمخبر، فإذا تكرر عليه ذلك وبلغ إلى حد التواتر حصل له اليقينُ وتمكن الاعتقاد، ولا يدري متى كان ذلك وفي أي لَمْحَةٍ حَصَلَ هذا اليقين.
فقوله :﴿وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ تأكيد للمنع أي لا تقولوا بأن المرة الواحدة تغفر ولا توجب رِدّة ؛ لأن الامر غير معلوم بل احْسُموا الباب.
قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ أي إجلالاً له ﴿أُوْلَائِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ﴾ اختبرها وأخلصها كما يمتحن الذهب بالنار فتخرج خالصة.
قوله :﴿أُوْلَائِكَ الَّذِينَ﴾ يجوز أن يكون " أولئك " مبتدأ " والذين " خبره والجملة خبر " إِنَّ " ويكون " لهم مَغْفِرَةٌ " جملة أخرى إما مستأنفة وهو الظاهر وإما حالية.
ويجوز أن يكون " الَّذِينَ امْتَحَنَ (الله قُلُوبَهُمْ) " صفة " لأولئك " أوة بدلاً منه أو بياناً و " لَهُمْ مَغْفِرَةٌ " جملة خبرية.
ويجوز أن يكون " لهم " هو الخبر وحده و " مَغْفِرَةٌ " فاعل به واللام في قوله :" لِلْتَّقْوَى " يحتمل أن يتعلق بمحذوف تقديره عرف الله قلوبهم صالحة أي كائنة للتقوى كقولك : أنْتَ لِكذَا أي صَالِحٌ أي كائنٌ ويحتمل أن يكون للتعليل.
وهو يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون تعليلاً يجري مَجْرَى بيان السبب المقتدمخ، كقولك : جِئْتُكَ لإِكْرَامِكَ ابني أمسِ أي صار ذلك السبب السابق سبب المجيء.
والثاني : أن يكون تعليلاً يجرى مجرى بيانه علّيّة المقصود المتوقع الذي يكون لاحقاً لا سابقاً، كقولك : جِئْتُكَ لأَدَاء الوَاجِبِ، أي ليصير مجيئي سبباً لأداء الواجب.
فعلى الأول فمعناه أن الله علم في قلوبهم تقواه فامتحن قلوبهم للتقوى التي كانت فيها، ولولا أن قلوبهم كانت مملوءة من التقوى لما أمرهم بتعظيم رسوله وتقديم نبيه علىأنفسهم.
على الثاني فمعناه أن الله تعالى امتحن قلوبهم بمعرفته معرفة رسوله
٥٢٦
بالتقوى أي ليرزقهم الله التقوى، ثم قال :﴿لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ وقد تقدم الكلام عن ذلك.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٥٢٠