شيء وكل يسعى في الإصلاح لأمر نفسه فلم يؤكد بالأمر بالتقوى وأما عند تخاصم رَجُلَيْن لا يخاف الناس ذلك وربما يريد بعضهم تأكيد الخِصَام بين الخصوم ولغرض فاسد، فقال :﴿فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله﴾ أو يقال : قوله : وأصْلِحُوا إشارة الإصلاح، وقوله :" وَاتَّقُوا اللهَ " إشارة ما يصيبهم عن المُشَاجَرَة، وإيذاء قلب الأخ ؛ لأن من اتقى الله شغله تقواه عن الاشتغال بغيره، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ :" الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهٍ " فالمسلم يكون مقبلاً على عبادة الله مشتغلاً بعَيْبِه عن عيوب الناس.
فصل في هاتين الآيتين دليل على أن البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأن الله تعالى سماهم إخوةً مؤمنين مع كونه باغين، ويدل عليه ما روى الحارُ الأعور أن عليَّ بْنَ أبي طالب سُئِلَ وهو القدوةُ ف يقتال أهل البغي عن أهل الجمل وصِفِّين أمشركون هُمْ ؟ فقال : لا ؛ من الشرك فروا فقيل : أمُنَافِقُونَ ؟ فقال :(لا) إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً.
قيل : فما حالهم ؟ قال : إخواننا بَغَوْا علينا والباغِي في الشرع هو الخارج على إمام العدل، فإذا اجتمعت طائفةٌ لهم قوة وَمَنَعَةٌ فامتنعوا عن طاعة إمام العدل بتأويل محتمل ونصِّبُوا إماماً بالحكم فيهم أن يبعث الإمام إليهم ويدعوهم إلى طاعته فإن أظهروا مظلمةً أزالها عنهم وإن لم يذكروا مظلمةً وأصروا على بغيهم قاتلهم الإمام حتى يَفِيئُوا إلى طاعته.
وحكم قتالهم مذكور في كتب الفقه.

فصل " إنَّمَا " للحصر أي الأخوة الآتين من المؤمنين.


فلا أُخُوَّةَ بين المؤمن والكافر ولهذا إذَا مات المسلم وله أخر كافر يكون مالُه للمسلمين، ولا يكون لأخ الكافر، وكذلك الكافر، لأن في النسب المعتبر الأب الشرعي حتى إنَّ وَلَدَي الزّنا من ولدِ رجلٍ واحد لا يتوارثان، فكذلك الكفر لأن الجَامع الفاسد لا يفيد الأخُوّة ولهذا من مات من الكفار وله أخٌ مسلم ولا واثَ له من النسب لا يجعل ماله للكفار، ولو كان الدّين يجمعهم يرثه الكفار وما المسلم للمسلمين عند عدم الوارث.
فإن قيل : إذا ثبت أن أُخوَة الإسْلاَم أقوى منْ أُخُوّة النسب بدليل أنَّ المسلم يَرِثُه المسلمون إذا لم يكن له أخوة نسبيّة ولا يرث الأَخُ الكافر من النسب فِلمَ لا يقدمون
٥٤٣
الأخوة الإسلامية على الأخوة النَّسَبِيَّة مطلقاً حتى يكون مال المسلم للمسلمين لا لأخوة النسب ؟ فالجواب : أن الأخ المسلم إذا كان أخاً من النسب فقد اجتمع فيه أُخُوَّتان فصار أَقْوَى.
فصل قال النحاة ههنا : إنَّ " مَا " كافَّة تكف إنَّ عن العمل، ولولا ذلك لقيل : إنَّمَا الْمُؤْمِنِينَ إخوَةٌ وفي قوله تعالى :﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران : ١٥٩] وقوله :﴿عَمَّا قَلِيلٍ﴾ [المؤمنين : ٤٠] ليست كافة.
قال ابن الخطيب والسؤال الأقوى : هو أن رُبَّ من حرفو الجر و " الباء " و " عن " كذلك.
و " ما " في " رُبَّ " كافّة، في " عما " و " بما " ليست كافة.
والتحقيق فيه هو أن الكلام بعد " رُبَّمَا " و " إِنَّما " يكون تاماً ويمكن جعله مستقلاً، ولو حذفت " ربّما وإنَّما " لم يضرَّ تقول : ربَّمَا قَامَ الأَمِيرُ، ورُبَّمَا زَيْدٌ في الدَّارِ.
ولو حذف " رُبَّمَا " وقلت : زَيْدٌ فِي الدَّار وقام الأمير لصحَّ، وكذلك في " إنَّما " و " لَكِنَّما " وأما " عَمَّا " و " بما " فليس كذلك، لأن قوله تعالى :﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران : ١٥٩] لو حذفت " بما " وقلت : رَحْمةٌ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ، لما كان كلاماً، فالباء تُعَدّ متعلقة بما يحتاج إليها فهي باقية حقيقه وكذلك " عَمَّا "، وأما " رٌبَّمَا " لما استغنى عنها، فكأنها لم تبق حكماً، ولا عَمَلَ للمعدوم.
فإن قيل : إنَّ " إذَا " لم تُكَفَّ بِمَا فما بعده كلام تام فوجب أن لا يكون له عمل.
تقول : إنَّ زَيْداً قَائِمٌ ولو قلت : زيدٌ قائمٌ لَكَفَى وَتمَّ! نقول : ليس كذلك لأن ما بعد إنَّ يجوز أَنْ يكون نكرة تقول : إنَّ رَجُلاً جَاءَنِي وأَخْبَرَنِي بكذا.
وتقول جَاءَنِي رَجٌلٌ وأَخْبَرَنِي.
ولا يحسن : إنَّما رَجٌلٌ جَاءني كما لو لم يكن هناك إنما.
وكذلك القول في لَيْتَمَا لو حذفتهما واقتصرْت على ما بعدهما لا يكون تاماً فلم يكف.
وتقدم الكلام في " لعلّ " مِرَاراً.
جزء : ١٧ رقم الصفحة : ٥٣٧


الصفحة التالية
Icon