قوله (تعالى) :﴿ يا أيها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ﴾ الآية هذه الآية مبينة ومقررة لما تقدم لأن السخرية من الغير والعيب إن كان بسبب التفاوت في الدين والإيمان فهو جائز، وكذلك لَمْزُهُ وغَيْبَتُهُ وإن لم يكن بسبب الدين والإيمان فلا يجوز، لأنَّ الناسَ بعُمُومِهِمْ كافِرِهم ومؤمِنِهمْ يشتركون فيما يفتخر به المفتخِر، لأن التكبر والافتخار إن كان بسبب الغنى فالكافر قد يكون غنياً المؤمن فقيراً وبالعكس، وإنْ كان بسبب النَّسب فالكافشر قد يكون نسيباً والمؤمن مولى لِعَبْدٍ أسْود وبالعكس فالناس فيما ليس من الدين والتقوى متساوون أو متقاربون ولا يؤثر شيء من ذلك مع عدم التقوى كما قال تعالى :﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ فقوله تعالى :﴿ يا أيها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ﴾ يعنى كآدمَ أي أنكم متساوون في النسب فلا تفاخر لبعض على بضع لكونهم أبناء رجل واحد وامرأة واحدةٍ.
فصل قال ابن عباس (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا) نزلت في ثابتِ بن قيس وقوله للرجل الذي لم يتفسح له : ابنَ فلانة فقال النبي ـ ﷺ ـ من الذكر فلانة ؟ قال ثابت : أنا يا رسول الله فقال : انْظُر في وجوه القوم فَنَظَر، فقال : ما رأيت ثابتُ ؟ قال : رأيت أبيضَ وأحْمَرَ وأسود، قال : فإنك لا تَفْضُلُهُم إلا في الدِّين والتقوى، فنزلت هذه الآية ونزل في الذي لم يَتَفَسَّح :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ﴾ [المجادلة : ١١].
وقال مقاتل : لما كان فتح مكة أمر رسول الله ـ ﷺ ـ بلالاً حتى علا ظَهْرَ الكَعْبَةِ
٥٥٣
فأذَّن فقال عَتَّاب بن أُسَيد بن أبي العيِص : الحمُ لله الذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم.
وقال الحارث بن هشام : أما وَجَدَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ هذا الغراب الأسود مؤذناً ؟ وقال سُهَيْل بن عَمْرو : إن يرد اللهُ شيئاً يُغَيِّرْهُ.
وقال أبو سفيان : إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به ربُّ السموات فأتى جبريل رسول الله ـ ﷺ ـ فأخبره بما قالوا : فدعاهم عما قالوا فأقروا فأنز لالله ـ عزَّ وجلَّ ـ هذه الآية وزَجَرَهم عن التفاخر بالأنساب و التكاثر بالأموال، والإزْرَاءِ بالفقراء.
فإن قيل : هذه الآية تدل على عدم اعتبار النسب وليس كذلك فإن للنسبِ اعتبارً عُرْفاً وشرعاً حتى لا يجوز تزويج الشريفة بالنَّبَطِيّ!.
فالجواب : إذا جاء الأمر العظيم لا يبقى الأمر الحقير معتبراً، وذلك في الجنس والشرع والعرف أما الجنس فلأن الكواكب لا ترى عند طلوع الشمس، ولحناح الذباب دَويّ ولا يسمع عندما يكون رَعدٌ قويّ.
وأما العرف فلأن من جاءه غلام ملك أقبل عليه وأكرمه فإذا جاءه مع الملك لا يبقى له اعتبار ولا يلتفت إليه.
وإذا علم هذه ففي الشرع كذلك إذا جاء الشرف الديني الإلهيّ لا يبقى هناك اعتبار لا لنسب ولا لسبب، ألا ترى أن الكافر وإنْ كان من أعلى الناس نسباً، والمؤمن وإنْ كان من أدْوَنِهِمْ نسباً لا يقاس أحدهما بالآخر وكذلك ما هو من الدين مع غيره، ولهذا تصلح المناصبُ الدينية كالقضاءِ والشهادة لكل شريف ووضيعٍ إذا كان ديناً عالماً، ولا يصلح لشيء منها فاسق وإ، كان قُرَشِيَّ النَّسَبِ وقَارُونِيَّ النَّشَبِ ولكن إذا اجتمع في اثنين الدينُ المتينُ وأحدهما نسيب يرجح بالنسب عند الناس لا عند الله، لقوله تعالى ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى ﴾ [النجم : ٣٩] وشرف النسب ليس مكتسباً و لايحصل بعسيٍ.
فصل الحكمة في اختيار النسب من جملة أسباب التفاخر، ولم يذكر المال، لأن الأمور التي يفتخر بها في الدنيا وإن كانت كثيرة، لكن النسب أعلاها، لأن المال قد يحصل للفقير فيبطلُ افتخار المفتخر به عليه والسنّ والحسن وغير ذلك لا يدوم، والنسب ثابت مستمر غير مقدور التحصيل لمن ليس له ذلك فاختاره الله للذكر وأبطل اعتباره بالنسبة إلى التقوى ليعلم منه بطلان غيره بطريق الأولى.
فإن قيل : إذا كان ورود الآية لبيان عدم جواز الافتخار بغير التقوى فما فائدة قوله تعالى :﴿إِنَّا خَلَقْنَاكُم﴾ ؟ فالجواب : بأن كل شيء يترجح علىغيره، فإما أن يرجح بأمر فيه يلحقه ويرتب
٥٥٤


الصفحة التالية
Icon