الرابع :﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ﴾ [ق : ٣٧].
الخامس :" بَلْ عَجِبُوا ".
وهو قول كوفي، قالوا : لأنه بمعنى قَدْ عجبُوا.
السادس : أنه محذوف، فقدّره الزجاج والأخفش والمبرد : لَتُبْعَثُنَّ، وغيرهم : لَقَدْ جِئْتَهُمْ مُنْذِراً.
واعلم أن جوابات القسم سبعة، إنَّ المشددة كقوله :﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ﴾ [العصر : ١ و ٢]، و " مَا " النافية كقوله :﴿وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ﴾ [الضحى : ١ - ٣] واللام المفتوحة كقوله :﴿فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ﴾ [الحجر : ٩٢] وإنْ الخفيفة كقوله :﴿تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [الشعراء : ٩٧] ولا النافية كقوله :﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ [النحل : ٣٨]، و " قَدْ " كقوله :﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ [الشمس : ١ - ٩]، وبَلْ كقوله :﴿وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا ااْ﴾.
والمجيدُ : العظيم.
وقيل : المجيدُ : الكثير الكرم.
فإن قلنا : المجيد العظيم، فلأن القرآن عظيم الفائدة ولأنه ذكر الله العظيم، وذكر العظيم عظيم ولأنه لم يقدر عليه أحدٌ من الخلق، وقال تعالى :﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾ [الحجر : ٨٧].
ولا يبدل ولا يغير ولا يأتيهِ الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإن قلنا : المجيد هو الكثير الكفر فالقرآن كريم كل من طلب منه مقصوداً وَجَدَهُ، ويغني كل من لاَذَ به وإِغناء المحتاج غاية الكرم.
فإن قيل : القرآن مقسم به فما المقسم عليه ؟.
فالجواب : أن المقسم عليه إما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مَقَالِيَّة، والمقالية إما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة، فإن فهم من قرينة مقالية متقدمة، فلا يتقدم هنا لفظاً إلا " ق " فيكون التقدير : هذَا ق والقرآنِ، أو ق أنزلها الله تعالى والقرآنِ، كقولك : هذَا حَاتِمٌ واللَّهِ ؛ أي هو المشهور بالسخاء، وتقول : الهلالُ واللَّهِ أيْ رأيته واللَّهِ.
وإن فهم من قرينة مقالية متأخرة فذلك أمران : أحدهما : أن التقدير : والقرآن المجيد إنك المنذر، أو والقرآن المجيد إن الرجع لكائن، لأن كلام الأمرين ورد طاهراً، أما الأوّل فقوله تعالى :﴿يسا وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ [يس : ١ - ٢] إلى أن قال :﴿لِتُنذِرَ قَوْماً﴾ [يس : ١ - ٦ ].
وأما الثاني : فقوله تعالى :﴿وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ [الطور : ١ - ٧].
قال ابن الخطيب : وهذا الوجه يظهر غاية الظهور على قال من قال :" ق " اسم جبل فإن القسم يكون بالجبل والقرآن، وهناك أقسم بالطور والكتاب المسطور وهو الجبل والقرآن وإن فهم بقرينة حالية فهو كون محمد - ﷺ - على الحق فإِن الكفار كانوا ينكرون ذلك.
قوله :" بَلْ عَجِبُوا " يقتضي أن يكون هناك أمرٌ مضروبٌ عنه فما ذلك ؟ أجاب الواحدي ووافقه الزمخشريّ أنه تقرير كأنه قال : ما الأمر كما تقولون.
قال ابن الخطيب : والتقدير والقرآن المجيد إنك لمنذر، وكأنه قال بعده : إنهم شكوا فيه.
ثم أضرب عنه وقال : بَلْ عَجبُوا أي فلم يكتفوا بالشك ولا بالردِّ حتى عَجِبُوا بل جَزَمُوا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمُور العجيبَة.
فإن قيل : فما الحكمة في هذا الاختصار العظيم في موضع واحد حذف المقسم عليه والمُضْرَب عنه، وأتى بأمر لا يفهم إلا بعد الفكر العظيم ولا يفهم مع الفكر إلا بالتوثيق العزيز ؟ !.
قال ابن الخطيب : أما حذف المقسم عليه فلأن الترك في بعض المواضع يفهم منه ظهور لا يفهم من الذكر، لأن من ذكر المَلِكَ العظيم في مجلس، وأثنى عليه يكون قد عَظَّمَهُ، فإذا قال له غيره : هو لا يذكر في هذا المجلس يكون بالإرشاد إلى ترك الذكر دالاًّ على عظمة فوق ما استفيد بذكره فالله (تعالى) ذكر المقسم عليه لبيان هو أظهر من أن يذكر.
وأما حذف المُضْرب عنه، فلأن المُضْرَب عنه إذا ذكر وأضرب عنه بأمرٍ آخر، وكان بين المذكورين تفاوتٌ ما، فإذا عظم التفاوت لا يحسن ذكرهما مع الإضراب، مثاله يحسن أن يقال : الوَزيرُ يعظم، فلا يماثل الملك بعظمه، ولا يحسن أن يقال : البوابُ يُعَظَّم فلا يماثل الملك بعظمه لكون البوْن بينهما بعيداً، إذ الإِضراب للتدريج، فإِذا ترك المتكلم المُضْرَبَ عنه صريحاً وأتى بحرف الإضراب اسْتُفِيدَ منه أمران : أحدهما : الإشارة إلى أمر آخر قبله مضربٌ عنه.


الصفحة التالية
Icon