الثاني : الفرقان المنزلُ وهو قريب من الأول ؛ لأنه برهانٌ.
الثالث : السورة الثابتة بالمعجوة القاهرة فإِنَّها حَقٌّ.
الرابع : الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق.
فإن قيل : ما معنى الباء في قوله تعالى :(بالحَقِّ) ؟ وأيةُ حاجة إليها ؟ يعني أن التكذيبَ متعدٍّ بنفسه فهلْ هي التعدية إلى مفعول ثانٍ أو هي زائدة كما هي قوله تعالى :﴿فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ [القلم : ٥ و ٦].
فالجواب : أنها في هذا الموضع لإظهار التعدية ؛ لأن التكذيب (هو النسبة إلى الكذب) لكن النسبة توجد تارة في القائلِ وأخرى في القول، تقول : كَذَّبَنِي فلانٌ وكنت صادقاً ويقول : كَذَّبَ فلانٌ قَوْلِي، ويقال : كَذَّبَه أي جعله كاذباً وتقول : قلتُ لفلان : زيدٌ يجيء غداً، فتأخر عمداً حتى كَذَّبَنِي أو كذب قولي.
والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها قال تعالى :﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء : ١٤١] وقال ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ﴾ [القمر : ٢٣] وفي القول كذلك غيرَ أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر قال تعالى :﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ [الأعراف : ٦٤] وقال :﴿وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ﴾ [فاطر : ٤].
وفي القول الاستعمال بالباء أكثر قال تعالى :﴿كَذَّبُواْ بِئَايَاتِنَا﴾ [القمر : ٤٢] وقال :﴿كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ﴾ [ق : ٥].
وقال :﴿وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ﴾ [الزمر : ٣٢].
والتحقيق فيه أن الفعل المطلق هو المصدر، لأنه هو الذي يصدر من الفاعل، فإن من ضَرَبَ لم يصدر منه غير الضَّرب، غير أن له محلاً يقع فيه يسمى مضروباً.
ثم إن كان ظاهراً لكونه محلاً للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف يقال : ضَرَبْتُ عمراً وشَرِبْتُ مَاءً للعلم بأن الضرب لا بدَّ له من محِل يقوم به وكذلك الشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق فيه ؛ فإذا قلت : مَرَرْتُ يحتاج إلى الحرف ليظهر معنى التعدية، لعدم ظهوره في نفسه ؛ لأن قولك : مَرَّ السَّحَاب يفهم منه مُرُور، (و) لا يفهم مَنْ مَرَّ به.
ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون الضَّرْبِ والشُّرب وفي الخفاء فوق المرور، فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف للظهور الذي فوق ظهور المرور، ومع الحرف لكون الظهور دون ظهور الضرب، ولهذا لا يجوز أن تقول : ضَرَبْتُ بعَمْروٍ إلا إذا جعلته آلة الضرب، أما إذا ضربته بسوطٍ أو غيره فَلاَ يجوز فيه زيادة الباء، ولا يجوز : مَرَرْتُهُ
١٤
إلا مع الاشتراك وتقول : مَسَحْتُهُ ومسحتُ به، وشَكَرْتُهُ وَشَكَرْتُ لَهُ لأن المسحَ إمرار اليد بالشيء فصار كالمُرور والشكر فعل جميل غير أنه يقع لمحسن فالأصل في الشكر الفعل الجميل وكونه واقعاً لغيره كالتَّبَع بخلاف الضرب فإنه إمساسُ جسمٍ بجسم بعنف، فالمضروب داخل في مفهوم الضَّرْب أولاً، والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانياً، وإذا عرف هذا فالتكذيب في القائل طاهر، لأنه هو الذي يصدق أو يكذب وفي القول غير ظاهر، فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر والباء فيه لظهور معنى التعدية، وقوله :" لما جاءهم " هو المكذب تقديره : وكَذَّبوا بالحق لما جاءهم الحَقُّ أي لم يؤخروه إلى التفَكر والتدبر.
قوله : لَمَّا جَاءَهُمْ العامة على تشديد " لما "، وهي إما حرف وجوب لوجوب أو ظرف بمعنى حين كما تقدم.
وقرأ الجَحْدريّ لِمَا - بكسر اللام وتخفيف الميم - على أنها لام الجر دخلت على ما المصدرية وهي نظير قولهم : كَتَبْتُهُ لخمسٍ خَلَوْنَ أي عندها.
قوله : فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ، أي مختلط، قال أبو واقد : ٤٥٠٦ - ومَرِجَ الدِّينُ فَأعْدَدْتُ لَهُ
مُشْرِفَ الأَقْطَارِ مَحْبُوكَ الكَتَدْ
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣
وقال آخر : ٤٥٠٧ - فَجَالَتْ والتَمَسْتُ به حَشَاهَا
فَخَرَّ كَأَنَّهُ خُوطٌ مَرِيجُ
وأصله من الحركة والاضطراب، ومنه : مرج الخاتم في إصبعه وقال سعيد بن جبير ومجاهد : ملتبس.
١٥

فصل قال قتادة : معناه من ترك الحق مرج إليه أمره وألبس عليه دينه.


وقال الحسن : ما ترك قومٌ الحقّ إلا مَرج أمرُهُمْ.
وقال الزجاج : معنى اختلاط أمرهم أنهم يقولون للنبي - ﷺ - مرة شاعرٌ، ومرة ساحرٌ، ومرة معلّمٌ، ومرة كاهنٌ، ومرة معترّ ومرة ينسبونه إلى الجنون فكان أمرهم مُخْتَلِطاً ملتبساً عليهم.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣


الصفحة التالية
Icon