ومجاهد ومقاتل : وبالأسحار يصَلّونَ ؛ وذلك لأن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة.
روى أبو هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال :" يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاء كُلَّ لَيْلَةٍ حينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْل فَيَقُولُ : أَنَا المَلِكُ أَنَا المَلِكُ، مَنِ الَّذي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ ؟ مَنِ الَّذِي يسَأَلُنِي فَاعْطِيَهُ ؟ مِنَ الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ؟ ".
فصل في قوله :﴿وبالأسحار هُمْ يستغفرون﴾ إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه، فهم يستغفرون من التقصير.
وهذه سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويَسْتَقِلُّه ويعتذر من التقصير واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويَمُنُّ به.
وفي الآية لطائف : الأولى : أنه تعالى لما ذكر قلة هجوعهم، والهجوع مُقْتَضى الطبع قال : يَسْتَغْفِرُونَ أي من ذلك القدر من النوم القليل.
الثانية : أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحْهم بكَثْرة السَّهر فلم يقل : كَانُوا قليلاً من الليل ما يسهرون مع أن السَّهَر هو الكَلَفَةُ والاجتهاد لا الهجوع، وهذا إشارة إلى أن نَوْمَهم عبادةٌ حيث مدحهم الله بكونهم هاجعين قليلاً، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى، والاستغفار بالأسحار، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم.

فصل الباء في قوله :" بالأسحار " استعملت للظرف هنا، وهي ليست للظرف.


قال بعض النحاة : إن حروف الجر ينوب بعضُها عن بعض يقال في ظرف الزمان : خَرَجْتُ لِعَشْرٍ بَقِينَ، وبالليل، وفي شهر رمضان.
فتستعمل اللام والباء، وفي، وكذلك في ظرف المكان تقول : قُمْتُ بِمدينة كذا، وفيها، ورأيته ببَلْدَةِ كذا، وفيها.
قال ابن الخطيب : والتحقيقُ فيه أن نقول : الحروف لها معانٍ مختلفة كما أن الأسماء والأفعال كذلك غير أن الحروف مستقلة بإفادة المعنى والاسم والفعل مُسْتَقِلاَّنِ، لكن بين بعض الحروف وبعضها تنافرٌ (و) تباعد كما في الأسماء والأفعال، فإن البيتَ والسَّكَن متخالفان ومتقاربان،
٧١
وكذلك مَكَثَ، وسَكَنَ (وَأَلَمَّ)، وكذلك كل اسمين أو كل فعلين يوجد كان بينهما تقارب وتباعد، لأن الباء للإِلصاق، واللام للاختصاص، و " في " للظرف، والظرف مع المظروف ملتصق ومختص به.
إذا عرف هذا فنقول : بين " الباء " و " اللام " و " في " مشاركة، أما الباء فلأنها للإِلصاق، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان فإِذا قال : سَارَ بالنَّهَارِ معناه ذهب ذَهَاباً مُتَّصِلاً بالنهار.
فقوله :﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أي متصلاً بالأسحار، أخبر عن الاقتراب، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله :" فِي اللَّيْلِ " ؛ لأنه يستدعي احتواء الزمان بالفعل وكذلك قول القائل : أقمتُ ببَلْدَة كذا، لا يفيد أنه كان مخالطاً بالبلد.
وقوله : أقمتُ فيها يدل على إحاطتها به، فإذن قول القائل : أَقَمْتُ بالبَلَدِ، ودَعَوْتُ بالأَسْحَارِ أعمُّ مِنْ قوله : أقمتُ فِيهِ ؛ لأن القائم فيه قائمٌ به والقائم به ليس قائماً فيه.
وإِذا علم هذا فقوله :﴿وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ إشارة إلى أنهم لا يُخْلُونَ وقتاً عن العبادة وأنهم بالليل لا يهجعون، ومع أول جزء من السحر يتسغفرون فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب، لأنهم وقت الانتباه لم يُخْلوا الوقت للذنب.
ولا يطرد استعمال الباء بمعنى " في "، فلا تقول : خَرَجْتُ بِيَوْم الجُمُعَةِ لأن يوم الجمعة مع أنه زمان فيه خُصُوصيَّات وتقييدات زائدة على الزمان، لأنك إذا قلت : خَرَجْتُ بِنَهَارِنَا وبلَيْلَةِ الجُمُعَةِ، لم يحسن.
ولو قلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ وخَرَجَ (بِيَوْمِ) نَحْسٍ حَسُن فالنهارُ والليل لمّا لم يكن فيهما خُصُوصٌ وتقييد جازَ استعمالُ الباء فيهما، فإِذا قيدتهما وخصصتهما زال الجوازُ، و " يَوْمُ الجمعة " لمَّا كان فيه خصوص لم يجز وقلت : خَرَجْتُ بِيَوْم سَعْدٍ جاز.
وأما " فِي " فيصح مطلقاً ؛ لأن ما حصل في العام حصل في الخاص، لأن العام جزءٌ داخل في الخاص، فتقول : فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ وفِي هذِهِ السَّاعة.
وأما اللام فتقدم الكلام عليها عند قوله :﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا﴾ [يس : ٣٨].
٧٢


الصفحة التالية
Icon