وأما الفرق بين النصب والرفع، فإن حملنا السلام على التّحية، فإنه مُبتدأ مع أنه نكرة تنبيهاً على أصله، لأنه النصب، لأن المعنى أسَلِّمُ سلاماً و " عَلَيْكُمْ " لبيان المسلَّم عليه، لا حظَّ له في الإعراب.
وأصل الكلام أسلم سلاماً، فالنصب أصل، فقدم على الرفع الذي هو فرع، وأيضاً فرد (إبراهيم) أبلع لأنه أتى بالجملة الاسمية الدالة على الثبات بخلاف الفعلية، فإنها تدل على التَّجدّد والحُدُوث، ولهذا يستقيم قولنا : الله موجود الآن، ولا يستقيم قولنا : اللَّهُ وجدَ الآن.
وأما إن قلنا : معناه حَسَناً، أو ذا سلامة، فمعناه قلتم حسناً وأنتم مُنْكرون فالتبس الأمر عليَّ.
وأما إن قلنا معناه المتاركة فمعناه سلَّمتم عليَّ، وأنا أمري متاركة لأني لا أعلم حالكم، ومنه :﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً﴾ [الفرقان : ٦٣] وقال تعالى :﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ﴾ [الزخرف : ٨٩] لأن سلامتهم عن الجاهلين لا يمنع التعرض لهم، بخلاف النبي - ﷺ - فمعناه سلم أمري متاركة إلى أن يأتي أمر الله.
وتقدم تحرير نظير هذه الآية في سورة هُود.
وتقدم أيضاً خلاف القراء في سَلام بالنسبة إلى فتح سِينه وكسرِها، وإلى سكون لامه وفتحها.
وقُرِئَا مرفُوعَيْن.
وقرئ سلاماً قَالوا سِلْماً بكسر السين الثاني ونصبه، ولا
٨٣
يخفى توجيه ذلك بما تقدم في هود ودخلت الفاء ههنا إشارة إلى أنهم لم يخلوا بأدب الدخول، بل جعلوا السلام عَقِيبَ الدخول.
قوله :" قَوْمٌ مُنْكَرُون " خبر مبتدأ مضمر، فَقدَّروه أنتم قَوْمٌ، ولم يَسْتَحْسِنْهُ بعضُهم ؛ لأن فيه عدم أنس فمثله لا يقع من إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -، فالأولى أن يقدر هَؤلاءِ قومٌ، أو هُمْ قَوْمٌ، وتكون مقالته هذه مع أهل بيته وخاصته، لا لنفس الملائكة لأن ذلك يوحشهم.
وقال المفسرون : قوم منكرون أي غُرَبَاء ولا نعرفكم.
قال ابن عباس - (رضي الله عنهما - ) قال في نفسه : هؤلاء قوم لا نَعرفهم.
وقيل : إنما أنكر أمرهم، لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان.
وقال أبو العالية : أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض.
فإن قيل : قال في سورة هود :﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ﴾ [هود : ٧٠] فدل على أن إنكاره حصل بعد تقريب العِجْل إليهم وههنا قال :﴿فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾، ثم قال :﴿فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ﴾ بفاء التعقيب، وذلك يدل على تقريب الطعام منهم بعد حصول إنْكَارِهِ فما وجهه ؟ فالجواب : أن يقال : لعلهم كانوا مخالفين لِصفة الناس في الشكل والهيئة، ولذلك قال :" قوم منكرون "، (أي) عند كل أحد (منا)، ثم لمّا امتنعوا عن الطعام تأكد الإنكار، لأن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - تَفَرَّد بمشاهدة إمساكهم فنَكِرَهُمْ فوق الإنكار الأول.
وحكاية الحال في سورة " هود " أبْسَطُ مما ذكره ههنا، فإن هَهنا لم يبين المُبَشَّر به، وهناك ذكره باسمه وهو إسحاق وههنا لم يقل إن القوم قوم مَنْ، وهناك قال : قَوْم لوطٍ.
فصل ذكر ههنا من آداب الضيافة تسليمَ المُضِيفِ على الضَّيف، ولقاءَه بالوجه الحسن، والمبالغةَ في الإكرام بقوله :" سلام "، وهو آكد، وسلامهم بالمصدر، وفي قوله : سلام بالرفع زيادة على ذلك ولم يقل سلامٌ عليكم ؛ لأن الامتناع من الطعام يدل على أن العداوة لا تليق بالأنبياء فقال : سلام أي أمري مُسَالمة، ثم فيها من أدب الضيف تعجيل
٨٤


الصفحة التالية
Icon