الضمير، لأن تلك إما أصنام منحوتة وإما كواكب جعلوا الأصنام على صُوَرِها وطَبائِعِهَا، فأما الأصنام المنحوتة فلا يَشكون أنها ما بنت من السماء شيئاً، وأما الكواكب فهي في السماء محتاجة إليها فلا تكون هي بانيتها ؛ وإنما يقال : بُنيتْ لها وجعلت أماكنها، فلمّا لم يتوهم ما قالوا قال : بَنَيْنَا نَحْنُ ونحن غير ما يقولون ويدعونه فلا يصلحون لنا شُرَكَاءَ.
ثم لما بين أن قولهم لا يُوهم شريكاً أصلاً، لأن كل ما هو غير السماء فهو محتاج إلى السماء دون السماء في المرتبة فلا يكون خالقاً للسماء ولا بانيها، فعلم أن المراد جمعُ التعظيم، فأفاد النص عظمة، والعظمة أنفى للشريك، فعلم أن قوله :" بَنَيْنَاهَا " أدلّ على نفي الشَّريك من " بَنَيْتُهَا " و " بِنَاء اللَّهِ ".
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : بَنَيْنَاهَا بأيدينا كما قال :﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ﴾ [يس : ٧١].
فالجواب : أن ذلك لفائدة جليلة، وهي أنَّ السماء لا يخطر ببال أحد أنها مخلوقة غير الله والأنعام ليست كذلك.
فقال هناك : عملت أيدينا تصريحاً بأن الحيوان مخلوق لله تعالى من غير واسطة.
وكذلك :﴿خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص : ٧٥] وفي السماء قال : بأيد من غير إضافة للاستغناء عنها.
وفيه لطيفة (أخرى) وهي : أن هناك لما أثبت الإضافة لم يعد الضمير العائد إلى المفعول فلم يقل خلقته ولا عملته، وأما السماء : فبعض الجهال يزعم أنها غير مجعولة، فقال : بَنَيْنَاهَا بعَوْدِ الضمير تصريحاً بأنها مخلوقة.
قوله :" وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا " أي بسطناها ومَهَّدْنَاها، وفيه دليل على أن خلق الأرض بعد خلق السماء لأن بناء البيت يكون في العادة قبل الفرش.
قوله :" فَنِعْم المَاهِدُونَ " المخصوص بالمدح محذوف لفهم المعنى، أي نَحْنُ، كقوله :﴿نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ [ص : ٣٠]، قال ابن عباس - (رضي الله عنهما - ) : معناه الباسطون أي نعم ما وطأت لعبادي.
قوله تعالى :﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ يجوز أن يتعلق " بخَلَقْنَا " أي خلقنا من كل شيء زَوْجَيْن، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من :" زَوْجَيْنِ " لأنه في الأصل صفة له، إذْ التقدير خَلَقْنَا زَوْجَيْنَ كَائِنَيْن مِنْ كلِّ شيء.
والأول أقوى في المعنى.

فصل المعنى " خلقنا زوجين " صِنْفَيْن ونوعين مختلفين، كالسَّمَاءِ والأرض، والشَّمس


١٠٢
والقمر، والليل والنهار، والبَرّ والبحر، والسَّهْل والجبل، والشتاء والصَّيْف، والجنّ والإنس، والذَّكَر والأنثى، والنور والظُّلْمَة، والإيمان والكفر، والسعادة (والشقاوة) والحق والباطل، والحُلْو والمُرّ " لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ " فتعلمون أنّ خالق الأزواج واحد لا شريك له، لا يعجز عن حشر الأجْساد وجَمْع الأرواح.
قوله :﴿فَفِرُّوا ااْ إِلَى اللَّهِ﴾ أي فاهربُوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة.
قال ابن عباس - (رضي الله عنهما - ) : فروا منه إليه واعملوا بطاعته.
وقال سهل بن عبد الله : فروا ممَّا سوى الله إلى الله ﴿إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ وهذا إشارة إلى الرسالة.
قوله :﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ﴾ إتماماً للتوحيد، لأن التوحيد يباين التعطيل والتشريك، لأن المُعَطِّل يقول : لا إله أصلاً والمشرك يقول بوجود إله آخر، والموحِّد يقول : قول الاثنين باطل، لأن نفي الواحد باطل والقول بالاثنين باطل، فلما قال تعالى :﴿فَفِرُّوا ااْ إِلَى اللَّهِ﴾ أثبت وجود الله، فلما قال :﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَـاهاً آخَرَ﴾ نفى الأكثر من واحد فصح القول بالتوحيد بالآيتين.
ولهذا قال مرتين :﴿إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ أي في المقامين والموضِعَيْنِ.
قوله :" كَذَلِكَ " فيه وجهان : أظهرهما : أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمرُ مِثْلُ ذلك، (قال الزمخشري) : والإشارة بذلك إلى تكذيبهم الرسول وتسميته ساحراً ومجنوناً.
ثم فسَّر ما أجمل بقوله :" مَا أَتى ".
والثاني : أن الكاف في محل نصب نعتاً لمصدر محذوف.
قاله مكي.
ولم يبين تَقْدِيرَهُ.
ولا يصح أن ينتصب بما بعده لأجل ما النافية.
وأما المعنى فلا يمتنع، ولذلك قال الزمخشري : ولا يصح أن يكون الكاف منصوبة بـ " أَتَى " لأن ما النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلَها ؛ ولو قيل : لم يأت لكان صحيحاً، يعني لو أتى في موضع " مَا " بـ " لم " لجاز أن ينتصب الكاف بـ " أَتَى " لأن المعنى يسوغ عليه، والتقدير : كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ تكذيباً مِثْلَ تَكْذِيبِ الأُمَم السَّابِقَة رُسُلَهُمْ.
ويدل عليه قوله :﴿مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ الآية.
١٠٣


الصفحة التالية
Icon