فصل في تعلق الآية بما قبلها أن بعثة الأنبياء منحصرة في أمرين عبادة الله وهداية الخلق، فلما قال تعالى :﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ﴾ [الذاريات : ٥٤] بين أن الهداية قد سقطت عند اليأس، وأمّا العبادة فهي لازمة للخلق المطلق وليس الخلق المطلق للهداية، وقيل : إنه لما بين حال من قبله فِي التكذيب ذكر هذه ليتبين سُوءَ صنيعهم، حيث تركوا عبادة الله الذي خلقهم للعبادة.
فإِنْ قِيلَ : ما الحكمة في أنه لم يذكر الملائكة مع أنهم من أصناف المكلفين وعبادتهم أكثر من عبادة غيرهم من المكلَّفين، قال تعالى :﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء : ٢٦] وقال :﴿لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ﴾ [الأعراف : ٢٠٦].
فالجواب من وجوه : أحدها : أنه تقدم أن الآية سيقت لبيان قُبْح ما يفعله الكَفَرَةُ، من ترك ما خُلِقُوا له.
وهذا مختص بالجِنِّ والإنس ؛ لأن الكفر موجودٌ في الجنِّ والإنس بخلافِ الملائكة.
الثاني : أن النبي - ﷺ - كان مبعوثاً إلى الجنِّ والإنس، فلما قال :" وَذَكِّرْ " بين ما يذكر به وهو كون الخلق للعبادة، وخصص أمته بالذكر أي ذكر الإنس والجن.
الثالث : أن عباد الأصنام كانوا يقولون : إن الله تعالى عظيم الشأن خلق الملائكة وجعلهم مقربين، فهُم يعبدون الله وخلقهم لعبادته ونحن لنزول درجتنا لا نصلح لعبادة الله فنعبد الملائكة وهم يعبدون الله كما قالوا :﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر : ٣] فقال تعالى :﴿مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ ولم يذكر الملائكة لأن الأمر فيهم كان مسلماً من القوم، فذكر المتنازع فيه.
الرابع : فعل الجن يتناول الملائكة، لأن أصل الجن من الاستتار، وهم مُسْتَتِرُون عن الخلق فذكر الجن لدخول الملائكة فيهم.
قوله :﴿مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ﴾ أي يرزقوا أحداً من خَلْقِي، ولا أن يرزقوا أنفسهم ﴿وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ أي يطعموا أحداً من خلقي.
وإنما أسند الإطعام إلى نفسه لأن الخلق عِيالُ الله ومن أطعم عيالَ أحدٍ فقد أطعمَهُ، قال عليه الصلاة والسلام :" اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي "، أي لم تطعم عبدي.
فصل استدل المعتزلة بقوله تعالى :﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ على أن
١٠٦
أفعال الله تعالى معلّلة بالأغراض وأجيبوا بوجوه تقدمت منها : أن اللام قد تثبت لغير الغرض كقوله تعالى :﴿أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ [الإسراء : ٧٨] وقوله :﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق : ١] ومعناه المقارنة فمعناه : قرنت الخلق بالعبادة أي خلقتهم، وفرضت عليهم العبادة.
ومنها : قوله تعالى :﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الزمر : ٦٢] و[الرعد : ١٦].
ومنها : ما يدل على أن الإضلال بفعل الله كقوله تعالى :﴿يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ [النحل : ٩٣] وأمثاله.
ومنها : قوله تعالى :﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ﴾ [الأنبياء : ٢٣] وقوله :﴿وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَآءُ﴾ [إبراهيم : ٢٧] و ﴿يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ﴾ [المائدة : ١].
وقوله تعالى :﴿مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ معناه : أن النفع يعود إليهم لا لي.
فإن قيل : ما الفائدة في تكرير الإرادتين مع أن من لا يريد من أحدٍ رزقاً لا يريد أن يُطْعِمَهُ ؟ !.
فالجواب : أن السيِّدَ قد يطلب من العبد المتكسّب له، فيطلب منه الرزق، وقد يكون للسَّيدِ مالٌ وافر يستغني به عن التكسب لكنه يطلب من العبد قضاءَ حوائجه وإحضار الطعام بين يديه، فقال : لا أريد ذلك ولا هذا.
وقد طلب الرزق على طلب الإطعام من باب الارتقاء من الأدنَى إِلى الأعلى.
فإن قيل : ما فائدة تخصيص الإطعام بالذكر مع أن المراد عدم طلب فعل منهم غير التعظيم ؟ !.
فالجواب : أنه لما عمم النفي في الطلب الأول بقوله :" من رزق " وذلك إشارة إلى التعميم بذكر الإِطعام ونفي الأدنى يستتبعه نفي الأعلى بطريق الأولى، فكأنه قال : ما أريد منهم من غِنًى ولا عَمَلٍ.
فإن قيل : المطالب لا تنحصر فيما ذكره فإن السيِّد قد يشتري العبد لا لطلب عمل منه، ولا لطلب رزق ولا للتعظيم، بل يشتريه للتجارة! فالجواب : أن عموم قوله :﴿مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ﴾ يتناول ذلك.
قوله :" أَنْ يُطْعِمُونِ " قيل : فيه حذف مضاف أي يطعموا خَلْقِي كما تقدم في التفسير.
وقيل : المعنى أن يَنْفَعُون فعبر ببعض وجوه الانتفاعات لأن عادة السادة أن ينتفعوا بعبيدهم، والله مُسْتَغْنٍ عن ذلك.
١٠٧


الصفحة التالية
Icon