على الترتيب، وذكر في كل واحد منها ما يدل على كماله، فقوله :" جَنّات " إشارة إلى المسكن وقال :" فاكهين " إشارة إلى عدم التَّنغُّص وعلو المرتبة بكونه مما آتاهم الله، وقال :﴿كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً﴾ أي مأمون العاقبة من التَّخَم والسَّقَم، وترك ذكر المأكول والمشروب دلالة على تنوعهما وكثرتهما، وقوله :﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ إشارة إلى أنه تعالى يقول : إني مع كوني ربكم وخالقَكم وأدْخَلْتُكُم الجنة بفضلي فلا مِنَّة لي عليكم اليوم وإنما مِنَّتي عليكم كان في الدنيا هديتكم ووفقتكم للأعمال الصالحة كما قال :﴿بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ﴾ [الحجرات : ١٧] وأما اليوم فلا مِنَّةَ عليكم لأن هذا إِنجازُ الوَعْدِ.
فإن قيل : قال في حقّ الكفار :﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الطور : ١٦] وقال في حق المؤمنين :﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فما الفرق بينهما ؟.
فالجواب من وجوه : الأول : أن كلمة " إنَّما " للحصر، أي لا يجزون إلا ذلك، ولم يذكر هذا في حق المؤمن، لأنه يجزيه أضعاف ما عَمِلَ، ويَزِيدُهُ من فضله.
الثاني : قال هنا :" بِمَا كُنْتُمْ " وقال هناك :﴿مَا كُنتُمْ﴾ [النمل : ٩٠] أي تجزون عن أعمالكم.
وهذا إشارة إلى المبالغة في المماثلة، كأنه يقول : هذا عينُ ما عملت.
وقوله في حق المؤمن : بِمَا كُنْتُم كأنَّ ذلك أمر ثابتٌ مستمرٌّ يفيدكم هذا.
الثالث : أنه ذكر الجزاء هناك، وقال هنا :﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ لأَنَّ الجزاء يُنْبِئ عن الانقطاع، فإِن من أحسن إلى أحد فأتى بجزائه لا يتوقع المحسنُ منه شيئاً آخر.
فإن قيل : فاللَّه تعالى قال في موضع آخر :﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [المرسلات : ٤٣] في الثواب.
فالجواب : أنه في تلك المواضعِ لَمَّا لم يخاطب المجزيَّ ولم يقل : بما كنت تفعل أتى بما يفيد العلم بالدوام وعدم الانْقِطَاع.
وأما في السرر فذكر أموراً : أحدها : الاتّكاء فإنه هيئة مختصّة بالمنعم والفارغ الذي لا كُلْفَة عليه.
وجمع السرر لأَمْرَيْنِ : أظهرهما : أن يكون لكل واحد سُرَرٌ ؛ لأنه قوله :" مَصْفُوفة " يدل على أنه لواحدٍ، لأن سرر الكل لا تكون في موضع واحد مصطفَّة، ولفظ السَّرِير فيه حروف السُّرُور، بخلاف التَّخْتِ وغيره، وقوله :" مَصْفُوفَة " أي منتظمة بعضُها إلى جَنْبِ بعض فإِنها لو كانت متفرقة لقيل في كل موضع واحد يتكئ عليه صاحبه إذا حضر هذا الموضع.
وقوله
١٢٦
تعالى :﴿وَزَوَّجْنَاهُم﴾ إِشارة إلى النِّعمة الرابعة، وفيها ما يدل على كمال الحال من وجوه : الأول : أنه هو المزوج وهو الولي الذي يلي الطرفين يُزوج عباده بإِمائه ومن يكون كذلك لا يفعل إلا ما فيه راحة العباد والإماء.
الثاني : قال :" وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُور " ولم يقل : وَزَوَّجْنَاهُمْ حوراً مع أن لفظ التزويج يتعدى فعله إلى مفعولين بغير حرف، تقول زَوَّجْتُكَهَا، قال الله تعالى :﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا﴾ [الأحزاب : ٣٧] وذلك إشارة إلى أن المنفعة في التزويج لهم، وإنما زوجوا للذتهم بالحور لا لِلَذَّة الحور بهم.
الثالث : عدم الاقتصار على الزوجات بل وصفهن بالحُسْن واختار الأحسن من الأحسن، فإِنَّ أحْسَنَ ما في صورة الآدميِّ وَجْهُهُ، وأحسنَ ما في الوجه العَيْنُ.
قوله :﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه مبتدأ، والخبر الجملة من قوله :﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾، والذُّرِّيَّات هنا يصدق على الآباء، وعلى الأبناء، أي أن المؤمن إذا كان عمله أكثر أُلْحِقَ به مَنْ دُونَهُ في العمل ابناً كان أو أباً.
وهو منقول عن ابنِ عَبَّاسٍ وغيره.
الثاني : أنه منصوب بفعل مقدر، قال أبو البقاء على تقدير : وَأَكْرَمْنَا الَّذِينَ آمَنُوا.
قال شهاب الدين : فيجوز أن يريد أنه من باب الاشتغال، وأن قوله :﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ مفسرٌ لذلك الفعل من حيثُ المعنى وأن يريد أنه مضمرٌ لدلالة السِّياق عليه، فلا تكون المسألة من الاشتغال في شَيْء.
الثالث : قال ابن الخطيب : إنه معطوف على :﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ﴾ ثم قال : فإذا كان كذلك فَلِمَ أعَادَ لفظ " الَذين آمنوا " وكان المقصود يحصل بقوله تعالى :﴿أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ بعد قوله ﴿وَزَوَّجْنَاهُم﴾ كان يصير التقديرُ : وزوَّجْنَاهم وألحقنا بهم ؟ نقول : فيه فائدة وهي أن المتقين هم الذين اتقوا الشرك والمعصية وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقال ههنا : الذين آمنوا بمجرد الإيمان يصير ولده من أهل الجنة، ثم إِن ارتكب الأب كبيرةً أو صغيرة لا يعاقب به ولده بل الوالد، وربما يدخل الجنةَ الابنُ قبل الأب، وقد ورد في الخبر أن الوَلَد الصغيرَ يشفع لأبيه، وذلك إشارة إلى الجزاء.
١٢٧


الصفحة التالية
Icon