وهل قوله :﴿عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى ﴾ ظرف مكان أو ظرف زمان في هذا الموضع ؟ قال ابن الخطيب : المشهور أنه ظرف مكان أي رأى جبريل أو غيره بقرب سدرة المنتهى.
وقيل : ظرف زمان كما يقال : صليت عِنْدَ طُلُوع الفَجْر، والتقدير رآه عند الحِيرة القُصْوَى أي في الزمان الذي يَحَار فيه عقل العقلاء.
فهو عليه الصلاة والسلام ما حار مما من شأنه أن يحار العاقل فيه.
فإن قيل : هذا التأويل يبطل بقوله :﴿يغشى السدرة ما يغشى﴾ فالجواب : أن المراد من الغشيان غشيان حالة على حالة أي ورد على حالة الحيرة حال الرؤية واليقين وأن محمداً عندما يحار العقل مما رآه وقت ما طرأ على تلك الحالة ما طرأ من فضل الله ورحمته.
والصحيح الأول فصل إذا قِيلَ بأنَّ محمداً - عليه الصلاة والسلام - رأى الله فمعناه أنه رآه عند سدرة المنتهى.
والظرف قد يكون ظرفاً للرائي كما إذا قال القائل : رَأَيْتُ الهِلاَلَ فيقال (له) أينَ رأيتَهُ ؟ فيقول عَلَى السطح وقد يقول عند الشجرة الفلانية.
وأما قول من قال : بأن الله تعالى في مكان فذلك باطل.
وإن قيل : بأن المرئي جبريل - عليه الصلاة والسلام - فظاهرٌ.
فصل إضافة السدرة إلى المنتهى يحتمل وجوهاً : أحدها : إضافة الشيء إلى مكانه كقولك : أشجار بلدةِ كَذَا، فالمنتهى حينئذ موضع لا يتعداه مَلَكٌ قال هلال بْنُ يَسَار : سأل ابن عباس كعباً عن سِدرة المنتهى وأنا حاضر فقال كعب : إنها سدرة في أصل العرش على رؤوس حملة العرش، وإليها ينتهي عِلم الخلائق وما خلقها غيب لا يعلمه إلاَّ الله.
وقيل : ينتهي إليها ما يهبط من فوقها ويصعد من تحتها.
وقال كعب : ينتهي إليها الملائكة والأنبياءُ.
وقال الربيع : ينتهي إليها أرواح الشهداء.
وقال قتادة : ينتهي إليها أرواح المؤمنين.
١٧٢
ثانيها : إضافة المحلِّ إلى الحالِّ فيه كقولك : كتابُ الْفِقهِ، وعلى هذا فالتقدير سدرة عندها مُنْتَهَى العلوم.
ثالثها : إضافة المِلْكِ إلى مالكه كقولك : دَارُ زَيْدٍ، وشَجَرَةُ زَيْدٍ، وحينئذ فالمنتهى إليه محذوف تقديره سدرة المنتهى إليه، قال تعالى :﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴾ [النجم : ٤٢] فالمنتهى إليه هو الله تعالى وإضافة السِّدْرَة إليه حينئذ كإضافةِ البَيْتِ إليه للتشريف والتعظيم، كما يقال في التسبيح : يا غايَةَ رغبَتَاهُ يا منتهى أملاَهُ.
فصل وجنة المأوى قيل : هي الجنة التي وعد بها المتقون، كقوله :﴿دَارَ الْمُقَامَةِ﴾ [فاطر : ٣٥].
وقيل : هي جنة أخرى عندها تكون أرواح الشهداء وقيل : هي جنة الملائكة.
قوله :(إذْ يَغْشَى) منصوب بـ (رَآهُ) وقوله :" مَا يَغْشَى " كقوله :﴿مَآ أَوْحَى ﴾ [النجم : ١٠].
وقال ابن الخطيب العامل في (إذْ) ما قبلها أو ما بعدها ؟ فيه وجهان : فإنْ قلنا : ما قبلها ففيه احتمالان : أظهرهما :" رآه " أي رآه وقت ما يغشى السِّدْرة الذي يغشى.
والثاني : العامل فيه الفعل الذي في النزلة أي رآه نزلةً أخرى تلك النزلة وقت ما يغشى السِّدرة ما يغشى أي نزوله لم يكن إلاَّ بعدما ظهرت العجائب عند السدرة، وغَشِيهَا مَا غشي.
وإن قلنا : العامل فيها ما بعدها فالعامل فيه ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ﴾ أي ما زاغ بصره وَقْتَ غَشَيَان السِّدْرَةِ ما غَشِيَهَا.

فصل اختلفوا فيما يَغْشَى السدرة فقيل : فَرَاشٌ وَجَرَادٌ مِنْ ذَهب.


وهو قول ابن عباس، وابن مسعود، والضحاك.
قال القرطبي : وعن النبي - ﷺ - قال :" رأيتُ السِّدْرَة يَغْشَاها فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وَرَأَيْتُ عَلَى كُلّ وَرْدَةٍ مَلَكاً قَائِماً يُسَبِّح " ؛ وذلك قوله تعالى :﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ﴾.
قال ابن الخطيب : وهذا ضعيف لأن ذلك لا يثبت إلاَّ بدليل سَمْعِيٍّ فإن صح فيه خبر وإلاَّ فلا وجه له.
وقيل : ملائكة يَغْشَوْنَها كأنهم طيورٌ يرتَقُونَ إليها متشرِّفين متبرِّكين بها زائرين كما يزور الناس الكعبة.
١٧٣


الصفحة التالية
Icon