وأيضاً فالذي يحزن غايةَ الحزن قد يضحك وقد يخرج الدمع من العين عند أمور مخصوصة لا يقدرون على تعليلها بتعليل صحيحٍ.
وأيضاً عند الخواص كالتي في المَغْنَاطيس وغيره ينقطع الطبيعيّ كما ينقطع هو والمهندس الذي لا يُفَوِّضُ أمره إلى قدرة الله وإرادته عند أوضاع الكواكب.
فصل إِذا قيل : بأن المراد بقوله تعالى :﴿إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى ﴾ إثبات الوَحْدانية فهذه الآيات مبيِّنَات لمسائل يتوقف عليها الإسلام من جملتها قدرة الله تعالى، فإن من الفلاسفة من يقول : بأنَّ الله المنتهى وأنه واحد لكن يقول : بأنه موجب لا قادر فقال تعالى : هو أَوْجَدَ ضِدَّين الضَّحِكَ والبُكَاءَ في مَحلٍّ واحد على التعاقب والتراخي، والموت والحياة، والذُّكُورَة والأنوثة في مادة واحدة، وذلك لا يكون إلا من قادرٍ يعترف به كُلُّ عاقل.
وإن قيل : بأن المراد بالمنتهى بيانُ المعاد فهو إشارة إلى أن الإنسان كما كان في الدنيا في بعض الأمور ضاحكاً وفي بعضها باكياً محزوناً كذلك في الآخرة.
فصل هذه الآية تدل على أن كل مَا يَعْمَلُهُ الإنسان فبقضاء الله وخَلْقِهِ حتى الضَّحك والبكاء قال مجاهد والكلبي : أضحك أهل الجنة في الجنة وأبكى أهل النار في النار، وقال الضحاك : أضحك الأرضَ بالنبات، وأبكى السماءَ بالمَطَر، وقال عَطَاءُ بن أبي مسلم : يعني أفرح وأحزن ؛ لأن الفرح يجلب الضَّحك والحزن يجلب البكاء.
فصل " روى مسلمٌ عن عائشةَ - (رضي الله عنها) - قالت : والله ما قال رسول الله - ﷺ - إن الميت ليعذب ببكاءِ أهله، ولكنه قال : إن الكافر يزيده اللَّهُ ببكاءِ أهلهِ عذاباً، وإن الله لهو أضحك وبكى، وَمَا تزر وازرة وزر أخرى ".
وعنها قالت :" مر النبي - ﷺ - على قوم من أصحابه وهم يضحكون فقال : لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ولَبَكَيْتُمْ كَثِيراً، فنزل جبريل - عليه الصلاة والسلام - فقال يا محمد : إن الله يقول لك : إنه هو أضحك وأبكى فَرَجَعَ إليهم فقال : ما خطوت أربعين خطوة حتى أتاني جبريل فقال : إيت هؤلاء فقل لهم إن الله يقول : هُوَ أضحك وأبكى " أي قضى أسباب الضَّحِك والبكاء.
٢١١
وقال بَسَّامُ بن عبد الله : أضحك أسنانهم وأبكى قلوبهم، وأنشد [رحمه الله] : ٤٥٧٠ - السِّنُّ تَضْحَكُ وَالأَحْشَاءُ تَحْتَرق
وَإِنَّمَا ضِحْكُها زُورٌ ومُخْتَلَقُ
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٢٠٠
يَا رُبَّ بَاكٍ بِعَيْنٍ لاَ دُمُوعَ لَهَا
وَرُبَّ ضَاحِكِ سِنٍّ مَا بِهِ رَمَقُ
قيل : إن الله تعالى خص الإنسان بالضحك والبكاء من بين سائر الحيوانات.
وقيل : إن القِرْدَ وَحْدَهُ يضحك ولا يبكي، وإن الإبل وحدها تبكي ولا تضحك.
وقال يوسف بن الحسين : سئل طاهر المَقْدِسيُّ : أَتَضْحَكُ المَلاَئِكَةُ ؟ فقال : ما ضَحِكُوا ولا كُلّ مَنْ دُون العَرْشِ.
قوله تعالى :﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا﴾ أي أمات في الدُّنْيَا، وأحيا للبعث.
وقال القرطبي : قضى أسباب الموت والحياة.
وقيل : خَلَقَ الموت والحياة.
قال ابن بحر.
وقيل : أمات النُّطْفَة وأحيا النَّسمة، وقيل : أمات الآباء وأحيا الأبناء.
وقيل : أمات الكافر بالكفر، وأحيا المؤمن بالإيمان.
قال ابن الخطيب : فإن قيل : معنى أمات وأحيا حتى يعلم ذلك بل مشاهدة الإحياء والإماتة بناء على الحياة والموت ؟.
نقول : فيه وجوه : أحدها : أنه على التقديم والتأخير كأنه قال : أَحْيَا وَأَمَاتَ.
ثانيها : هو بمعنى المستقبل، فإن الأمرَ قريبُ المُسْتَقْبل، يقال : كَأنّ فلاناً وصل والليلُ دَخَلَ، إذا قرب مكانه وزمانه فكذلك الإحياء والإماتة.
ثالثها : أنه خلق الموت والجمود في العَنَاصر ثم ركَّبها و " أَحْيَا " أي خلق الحِسَّ والحركة فيها.
قوله :﴿وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى ﴾ أي من كل حيوان.
ولم يرد آدمَ وحوّاء ؛ لأنهما ما خُلقا من نطفة.
وهذا أيضاً من جملة المتضادات الواردة على النطفة، فبعضها يخلق ذكراً وبعضها يخلق أنثى، ولا يصل إليه فهم الطَّبِيعِيّ، والذي يقولونه من البرد والرطوبة في الأنثى فرُبَّ امرأةٍ أحر وأَيْبَسُ مزاجاً من الرّجُل.
٢١٢


الصفحة التالية
Icon