قال علي - رضي الله عنه - : هي المَجَرَّة وهي شرع السماء ومنها فتحت بماء منهمر.
وقيل : هذا على سبيل الاستعارة ؛ فإِن الظاهر أن الماء كان من السحاب فهو كقول القائل في المطر الوابل :" جَرَتْ مَيَازِيبُ السَّمَاء ".
وفي قوله :" فَفَتَحْنَا " بيان بأن الله انْتَصَرَ منهم، وانتقم بماء لا بجُنْدٍ أنزله ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين، فأهلكهم الله بمَطْلُوبِهِمْ.
قوله :(بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ) في الباء وجهان : أظهرهما : أنها للتعدية ويكون ذلك على المبالغة في أنه جعل الماء كالآلة المُفْتَتَحِ بها، كما تقول فَتَحْتُ بالمَفَاتِيحِ.
والثاني : أنها للحال أي فتحناها ملتبسةً بهذا الماء والمُنْهَمرُ : الغزير النازل بقوة.
وأنشد امرؤ القيس : ٤٥٩٣ - رَاحَ تَمْرِيهِ الصَّبَا ثُمَّ انْتَحَى
فِيهِ شُؤْبُوب جَنُوبٍ مُنْهَمِرْ
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٢٤٣
واستعير ذلك في قولهم : هَمَرَ الرَّجُلُ في كلامه إذا أكثر الكلام وأسرع، وفلانٌ يُهَامِرُ الشيء أي يحرفه، وهَمَّرَ لَهُ من ماله أعطاه بكَثْرَة.
والمنهمر الكثير قاله السُّدِّيُّ (رحمة الله عليه) قال الشاعر : ٤٥٩٤ - أَعَيْنَيَّ جُودَا بالدُّمُوعِ الهَوَامِرِ
عَلَى خَيْرِ بَادٍ مِنْ معَدٍّ وَحَاضِرِ
قال المفسرون : معنى منهمر أي منصب انْصباباً شديداً.
قال ابن عباس : منهمر من غير سحاب لم ينقطع أربعين يوماً.
وقيل : ثمان.
قوله :" وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ " قرأ عبد الله وأبو حيوة وعَاصِم - في روايةٍ - وفَجَرْنا مخففاً.
والباقون مثقلاً.
٢٤٦
وقوله :" عُيُوناً " فيه أوجه : أشهرها : أنه تمييز أي فَجَّرْنَا عُيُونَ الأَرْضِ، فنقله من المفعولية إلى التمييز كما نقل من الفاعلية.
ومنعه بعضهم على ما سيأتي.
وقوله :﴿وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً﴾ أبلغ من فَجَّرْنَا عُيُونَ الأَرْضِ، لما ذكر في نظيره مراراً.
الثاني : أنه منصوب على البدل من الأرض، ويُضْعِفُ هذا خلوّه من الضمير، فإِنه بدل بعض من كل ويجاب عنه بأنه محذوف أي عيوناً منها كقوله :" الأُخْدُودِ النَّارِ "، فالنار بدل اشتمال ولا ضمير فهو مقدر.
الثالث : أنه مفعول ثان ؛ لأنه ضمن فَجَّرْنَا معنى صَيَّرْنَاهَا بالتفجير عُيُوناً.
الرابع : أنها حال، وفيه تجوز حذف مضاف أي ذَات عُيُونٍ، وكونها حالاً مقدرةً لا مقارنةً.
قال ابن الخطيب : قوله ﴿وفجرنا الأرض عيوناً﴾ فيه من البلاغة ما ليس في قول القائل : وَفجَّرْنا من الأرض عيوناً.
وقال : وفجرنا الأرض عيوناً، ولم يقل : فَفَتَحْنَا السَّمَاءَ أبواباً ؛ لأن السماء أعظمُ من الأرض وهي للمبالغة، وقال : أبواب السماء ولم يقل : أنابيب ولا منافذ ولا مَجَاري.
أما قوله تعالى :﴿فَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً﴾ فلا غنى عنه لأن قول القائل : فجرنا من الأرض عيوناً يكون حقيقة لا مبالغة فيه ويكون في صحة ذلك القول أن يحصل في الأرض عيونٌ ثلاثٌ ولا يصلح مع هذا في السَّمَاءِ ومِيَاهِهَا.
فصل قال ابن الخطيب : العُيُون جمع عَيْنٍ وهي حقيقية في العين التي هي آلة الإبصار ومجاز في غيرها أما في عيون الماء فلأنها تشبه العين الناظرة التي يخرج منها الدمع، لأن الماء الذي في العين كالدمع الذي في العين وهو مجاز مشهور صار غالباً حتى لا يفتقر
٢٤٧


الصفحة التالية
Icon