قوله تعالى :﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾.
يجوز أن يكون " مَقَام " مصدراً، وأن يكون مكاناً.
فإن كان مصدراً، فيحتمل أن يكون مضافاً لفاعله، أي : قيام ربه عليه، وحفظه لأعماله من قوله تعالى :﴿أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد : ٣٣].
ويروى عن مجاهد، قال مجاهد وإبراهيم النَّخعي : هو الرجل يهمّ بالمعصية، فيذكر الله فيدعها من خوفه.
وأن يكون مضافاً لمفعوله، والمعنى : القيام بحقوق الله فلا يضيعها.
وإن كان مكاناً، فالإضافة بأدنى ملابسة لما كان النَّاس يقومون بين يدي الله للحساب في عرصات القيامة.
قيل : فيه مقام الله، والمعنى : خاف مقامه بين يدي ربه للحساب، فنزلت المعصية، فـ " مقام " : مصدر بمعنى القيام.
فصل فيمن علق طلاق زوجته على دخوله الجنة قال القرطبي : هذه الآية دليل على أن من قال لزوجته : إن لم أكُن من أهل الجنة فأنت طالق، أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفاً من الله وحياء منه.
وقاله سفيان الثوري وأفتى به.

فصل في المراد بالجنتين الظاهر أن الجنتين لخائف واحد.


قال محمد بن علي الترمذي : جنّة لخوفه من ربه، وجنّة لتركه شهوته.
٣٤١
قال ابن عباس : من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض.
قال القرطبي : ويجوز أن يكون المقام للعبد، ثم يضاف إلى الله، وهو كالأجل في قوله تعالى :﴿فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ﴾ [الأعراف : ٣٤] وقوله في موضع آخر :﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ﴾ [نوح : ٤].
وقوله تعالى :﴿وَلِمَنْ خَافَ﴾ أي : كل خائف له جنتان على حدة.
وقيل : جنتان لجميع الخائفين.
والأول أظهر.
وقيل : جنة لخائف الإنس، وأخرى لخائف الجن، فيكون من باب التوزيع.
وقيل :" مقام " هنا مُقحم، والتقدير :" ولمن خاف ربه " ؛ وأنشد :[الوافر] ٤٦٥١ -...............
ونَفَيْتُ عَنْهُ
مَقَامَ الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٤١
أي : نفيت الذئب وليس بجيد، لأنَّ زيادة الاسم ليست بالسهلة.
وقيل : المراد بـ " الجنتين " : جنّة للجزاء، وأخرى زيادة على الجزاء.
وقيل : إن الجنتين : جنته التي خلقت له، وجنة ورثها.
وقيل : إحدى الجنتين منزله، والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا.
وقيل : إحدى الجنتين مسكنه، والأخرى بستانه.
وقيل : إن إحدى الجنتين أسافل القصور، والأخرى أعاليها.
وقال مقاتل : هما جنة عدن وجنة النعيم.
وقال الفرَّاء : إنها جنة واحدة، وإنما ثنّى مراعاة لرءوس الآي.
وقيل : جنة واحدة، وإنما ثنّى تأكيداً كقوله تعالى :﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ﴾ [ق : ٢٤].
وأنكر القتبي هذا، وقال : لا يجوز أن يقال : خزنة النار عشرون، وإنما ﴿تِسْعَةَ عَشَرَ﴾ [المدثر : ٣٠] مراعاة لرءوس الآي.
وأيضاً قال :﴿ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ﴾.
وقال عطاء وابن شوذب : نزلت هذه الآية في أبي بكر - رضي الله عنه - حين ذكر ذات يوم الجنّة حين أزلفت، والنَّار حين برزت.
وقال الضحاك : بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ، فأعجبه فسأل عنه، فأخبر أنه من غير حلٍّ فاستقاءه ورسول الله ﷺ ينظر إليه، فقال :" رحمكَ اللَّهُ لقَدْ أنْزِلَتْ فِيْكَ آيَةٌ "، وتلا عليه هذه الآية.
٣٤٢
قوله تعالى :" ذَوَاتَا ".
صفة لـ " جَنَّتان "، أو خبر مبتدأ محذوف، أي :" هما ذواتا ".
وفي تثنية " ذات " لغتان : الرد إلى الأصل، فإن أصلها " ذوية "، فالعين واو، واللام ياء ؛ لأنها مؤنثة " ذو ".
الثانية : التثنية على اللفظ.
فيقال :" ذواتا ".
و " الأفنان " : فيه وجهان.
أحدهما : أنه جمع " فَنَن " كـ " طلل "، وهو الغصن.
قال النابغة الذبياني :[الوافر] ٤٦٥٢ - بُكَاءُ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلاً
مُفَجَّعَةٍ على فَنَنٍ تُغَني
وقال آخر :[الرمل] ٤٦٥٣ - رُبَّ وَرْقَاءَ هَتُوفٍ بالضُّحَى
ذَاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ في فَنَنِ
وقال آخر :[الطويل] ٤٦٥٤ -..................
عَلَى كُلِّ أفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ
و " الفَنَن " : جمعه أفنان ثم الأفانين.
قال الشاعر يصف رحى :[الرجز]
٤٦٥٥ - لَهَا زِمَامٌ مِنْ أفَانِينِ الشَّجَرْ
وشجرة فناء : أي ذات أفنان، وفنواء أيضاً على غير قياس.
وفي الحديث :" أنَّ أهْلَ الجنَّةِ مُردٌ مُكَحَّلُون أولُو أفَانِيْن ".
وهو جمع أفنان، وأفنان : جمع " فَنَن " من الشعر، شبه بالغصن.
ذكره الهروي.
وقيل :" ذواتا أفنان " أي : ذواتا سعة وفضل على ما سواهما.
قاله قتادة.
٣٤٣
وعن مجاهد أيضاً وعكرمة : أن الأفنان ظل الأغصان على الحِيْطان.
وقال مجاهد : الفنن : هو الغصن المستقيم طولاً.
الوجه الثاني : أنه جمع " فنّ " كـ " دنّ "، وإليه أشار ابن عبَّاس.
والمعنى : ذواتا أنواع وأشكال ؛ وأنشدوا :[الطويل] ٤٦٥٦ - ومِنْ كُلِّ أفْنَانِ اللذَاذَةِ والصِّبَا
لَهَوْتُ بِهِ والعَيْشُ أخضرُ نَاضِرُ
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٣٤١


الصفحة التالية
Icon