فصل في المراد بالفتح أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح " مكة ".
وقال الشعبي والزهري : فتح " الحديبية ".
قال قتادة : كان قتالان، أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى ؛ لأن القتال والنفقة قبل فتح " مكة " أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك، وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة النَّاس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق، والأجر على قدر النَّصب.
قال مالك رضي الله عنه : ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم لقوله تعالى :﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾.
قال الكلبي : نزلت في أبي بكر وفيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر وتقديمه ؛ لأنه أوَّل من أسلم، وأول من أنفق في سبيل الله.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أوَّل من أظهر الإسلام بسيفه النبي ﷺ وأبو بكر.
وعن ابن عمر قال :" كنت عند النبي ﷺ وعنده أبو بكر، وعليه عباءة قد خلَّلها في صدره بخلالٍ، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال : يا نبي الله، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال ؟ قال :" أنْفَقَ مالهُ عليَّ قَبْلَ الفَتحِ "، قال : فإن الله تعالى يقول لك : اقرأ على أبي بكر السلام، وقل له : أنت راضٍ في فقرك أم ساخط ؟ فقال أبو بكر : إني عن ربي لَراضٍ، قال : فإن الله - تعالى - يقول لك قد رضيت عنك كما أنت عني راضٍ، فبكى أبو بكر، فقال جبريل : والذي بعثك يا محمد بالحق لقد تخلَّلت حملةُ العرش بالعبى منذ تخلَّل صاحبك هذا بالعباءة ".
ولهذا قدمه الصحابة على أنفسهم وأقرُّوا له بالتقدم والسبق.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : سبق النبي ﷺ وثنى أبو بكر وثلث عمر، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد [المفتري] ثمانين جلدة وطرح الشهادة.
٤٦٢
فصل في التقدم والتأخر في أحكام الدين فإن قلت : التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا، فأما في أحكام الدين فقالت عائشة رضي الله عنها : أمرنا رسول الله ﷺ أن ننزل النَّاس منازلهم.
وأعظم المنازل مرتبة الصلاة.
وقد قال ﷺ في مرضه :" مُرُوا أبَا بَكْر فليُصَلِّ بالنَّاسِ ".
وقال :" يَؤم القَوْمَ أقرؤهُم لِكتابِ اللَّه ".
وقال :" وليؤمكما أكبركما ".
وفهم منه العلماء أنه أراد كبر المنزلة، كما قال عليه الصلاة والسلام :" الوَلاَء للْكِبَرِ " ولم يَعْنِ كبر السن.
وقد قال مالك وغيره : إن للسن حقًّا، وراعاهُ الشَّافعي وأبو حنيفة، وهو أحق بالمراعاة.
وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا.
وفي الحديث :" ليْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوقِّر كبِيْرنَا ويرْحَمْ صَغِيْرَنا ويَعرفْ لِعَالِمنَا حقَّهُ ".
وفي الحديث أيضاً :" مَا أكْرَمَ شابٌّ شَيْخاً لسنِّهِ إلاَّ قيَّضَ اللَّهُ لهُ عِندَ سنِّهِ مَنْ يُكرمهُ ".
قوله :﴿وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾.
قراءة العامة : بالنَّصب على أنَّه مفعول مقدم، وهي مرسومة في مصاحفهم " وكلاًّ " بألف.
وابن عامر : برفعه.
٤٦٣
وفيه وجهان : أظهرهما : أنه ارتفع على الابتداء، والجملة بعده خبره، والعائد محذوف أي : وعده الله.
ومثله :[الرجز] ٤٧١٦ - قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي
عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٤٥٩
برفع " كلُّه " أي : لم أصنعه.
والبصريون [رحمة الله عليهم] لا يجيزون هذا إلاَّ في شعر، كقوله :[السريع] ٤٧١٧ - وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتِنَا
بالحَقِّ لا يَحْمَدُ بالبَاطِلِ
ونقل ابن مالك الإجماع من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إن كان المبتدأ " كُلاًّ " وما أشبهها في الافتقار والعموم.
قال شهاب الدين لم أره لغيره وقد تقدم نحو من ذلك في سورة " المائدة "، عند قوله تعالى :﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة : ٥٠] ولم يرو قوله :" كله لم أصنع " إلا بالرفع مع إمكان أن تنصبه، فتقول :" كله لم أصنع " مفعولاً مقدماً.
قال أهل البيان : لأنه قصد عموم السَّلب لا سلب العموم، فإن الأول أبلغ، وجعلوا من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام " كُلُّ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ ".
ولو قال : لم يكن كل ذلك، لكان سلباً للعموم، والمقصود عموم السَّلب.
قال الشيخ عبد القاهر : المعنى يتفاوت بالرفع والنصب، فمع الرفع يفيد أنه لم يفعل شيئاً من الأشياء، ومع النَّصْب يفيد أنه يفعل المجموع، ولا يلزم أنه لم يفعل البعض، بل إن قلنا بدليل الخطاب دل على أنه فعل البعض.
والثاني : أن يكون " كلّ " خبر مبتدأ محذوف، و ﴿وعد الله الحسنى﴾ صفة لما قبله، والعائد محذوف، أي :" وأولئك كل وعد الله الحسنى ".
فإن قيل : الحذف موجود أيضاً فقد عدتم لما فررتم منه ؟.
فالجواب : أن حذف العائد من الصفة كثير بخلاف حذفه من الخبر.
ومن حذفه من الصفة قوله :[الوافر]
٤٦٤