قال ابن عباس : من قبل أن نخلق المصيبة.
وقال سعيد بن جبير : من قبل أن نخلق الأرض والنفس.
﴿إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ أي : خلق ذلك، وحفظه على الله يسير أي : هيّن.
قال الربيع بن صالح : لما أُخذ سعيد بن جبيرٍ - رضي الله عنه - بَكَيْتُ، قال : ما يبكيك ؟ قلت : أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه، قال : فلا تَبْكِ، فإنه كان في علم الله - تعالى - أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى :﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ﴾ الآية.
قال ابن عباس : لما خلق الله القلم، قال له : اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
وقد ترك جماعة من السلف الدواء في أمراضهم، فلم يستعملوه ثقةً بربهم وتوكلاً عليه، وقالوا : قد علم الله أيام المرض وأيام الصِّحة، فلم حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى :﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ﴾ الآية، ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام :" مَنْ عَرَفَ يُسْرَ اللَّهِ في القَدَر هَانَتْ عليْهِ المَصَائِبُ ".
فصل في اتصال الآية بسياق الآيات قبلها قيل : إن هذه الآية نزلت متّصلة بما قبلها، وهو أن الله - تعالى - هوَّن عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال، وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له، وإنما على المرء امتثال الأمر، ثم أدبهم فقال :﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ﴾ أي : حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم ييأسوا على ما فاتهم منه.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن نبي الله ﷺ قال :" لاَيَجِدُ أحَدكُمْ طَعْمَ الإيمانِ حتَّى يعْلمَ أنَّ ما أصابهُ لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَهُ، ومَا أخطَأهُ لَمْ يَكُنْ ليُصِيبَهُ "، ثمَّ قرأ :﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ﴾ أي من الدنيا.
قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
٤٩٣
فصل في أن ما كان وما يكون مكتوب في اللوح المحفوظ قال ابن الخطيب : هذه الآية تدلّ على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللَّوح المحفوظ.
قال المتكلمون : وإنما كتب ذلك لوجوه : أحدها : ليستدلّ الملائكة بذلك المكتوب على كونه - تعالى - على علم بجميع الأشياء قبل وقوعها.
وثانيها : ليعرفوا حكمة الله، فإنه - تعالى - مع علمه بأنهم يقدمون على المعاصي خلقهم ورزقهم.
وثالثها : ليحذروا من أمثال تلك المعاصي.
ورابعها : ليشكروا الله - تعالى - على توفيقه إياهم للطَّاعات، وعصمته إياهم عن المعاصي.
فصل في كيفية حدوث الأحداث قال ابن الخطيب : إن الحكماء قالوا : إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبِّرات أمراً، والمقسمات أمراً، إنما هي المبادئ لحدوث الحوادث في العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية، والاتصالات الكوكبية، وتغيراتها هي الأسباب لتلك المسببات، وهذا هو المراد من قوله :﴿إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [سبأ : ٣].
فصل في مصائب الأنفس قوله تعالى :﴿وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ﴾ يتناول جميع مصائب الأنفس، فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم، فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبةٌ في اللوح المحفوظ مثبتة في علم الله تعالى، فكان الامتناع من تلك الأعمال محال ؛ لأن علم الله بوجودها مُنَافٍ لعدمها والجمع بين المتنافيين محال، وخصص مصائب الأرض والأنفس لتعلّقها بنا، ولم يقل : جميع الحوادث لشمولها حركات أهل الجنة والنار ؛ لأنها غير متناهية، فإثباتها في الكتاب محال.
قال ابن الخطيب : وفي الآية دليلٌ على أن الله - تعالى - يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافاً لـ " هشام بن الحكم ".
٤٩٤


الصفحة التالية
Icon