قوله تعالى :﴿لِّكَيْلاَ﴾.
هذه " اللام " متعلقة بقوله " ما أصَابَ "، أي : أخبرناكم بذلك لكيلا يحصل لكم الحزن المقنط والمفرح المطغي فأما ما دون ذلك فالإنسان غير مؤاخذ به، و " كي " هنا ناصبة بنفسها، فهي مصدرية فقط لدخول لام الجر عليها.
وقرأ أبو عمرو :" بما أتاكم " مقصوراً من الإتيان، أي : بما جاءكم.
قال أبو علي الفارسي :" لأن " أتاكم " معادل لقوله " فَاتَكُم "، فكما أنَّ الفعل للفائت في قوله :" فاتكم "، فكذلك الفعل الثاني في قوله :" بما أتاكم ".
وقرأ باقي السبعة :" آتاكم " ممدواً من " الإيتاء "، أي : بما أعطاكم الله إياه.
والعائد إلى الموصول في الكلمتين في الذكر المرفوع بأنه فاعل، و " الهاء " محذوفة من الصِّلة، أي : بما آتاكموه.
وقرأ عبد الله :" بما أوتيتم ".
فصل في أن حزن المؤمن صبر وفرحه شكر قال ابن عبَّاس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً، والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز.
وقال جعفر بن محمد : يا ابن آدم ما لك تأسف على مقدر لا يردّه عليك الفَوْت، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت.
وقيل لـ " بزرجمهر " : أيها الحكيم، ما لك لا تحزن على ما فات، ولا تفرح بما هو آتٍ ؟ قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعبرةِ، والآتي لا يستدام بالحَبْرةِ.
٤٩٥
وقوله :﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ أي : متكبر بما أوتي من الدنيا.
" فخور " به على النَّاس، قيل : الفخور الذي ينظر الناس بعين الاحتقار.
فصل فيمن قالوا بالإرادة والجبر قال ابن الخطيب : المعتزلة وإن نازعوا في القدرة والإرادة، فهم مسلمون في العلم والجبر، فيلزمهم الجبر باعتبارهما.
والفلاسفة مذهبم الجَبْر ؛ لأن سبب الحوادث عندهم الاتصالات الفلكية.
والقدرية قالوا : بأن الحوادث اتفاقية، فجميع فرق العقلاء يلزمهم الجبر، سواء أقروا به أو أنكروه.
فصل في إرادة العبد الحزن والفرح قالت المعتزلة : قوله :﴿لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ﴾ يدل على أنه إنما أخبرهم بكتبها ليحترزوا عن الحزن والفرح، ولولا قدرتهم عليه لم يكن لذلك فائدة، ويدل على أنه لا يريد أن يقع منهم الفرح والحزن، وهو خلاف قول المجبرة ؛ لأنه قال :﴿وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ والمحبة هي الإرادة.
وأجيبوا بأن المحبة هي إرادة خاصة وهي إرادة الثواب، ولا يلزم من نفيها نفي الإرادة.
قوله :﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾.
تقدم نظيره في سورة " النساء ".
قال القرطبي :" الذين " في موضع خفض نعتاً للمختال.
وقال ابن الخطيب : بدل من قوله :" كل مُخْتَال ".
وقيل : رفع بالابتداء، فهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله.
والمعنى : الذين يبخلون فالله غني عنهم.
قيل : أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد ﷺ في كتبهم لئلا يؤمن به النَّاس، فتذهب مأكلتهم.
قاله السُّدي والكلبي.
فيكون " الذين " مبتدأ، وخبره محذوف يدلّ عليه قوله تعالى :﴿وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾.
٤٩٦
وقال سعيد بن جبير :" الذين يَبْخَلُون " يعني بالعلم ﴿وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾ بألاَّ يعلموا الناس شيئاً.
وقال زيد بن أسلم : إنه البُخْل بأداء حق الله تعالى.
وقال عبد الله بن عامر الأشعري : هو البخل بالصدقة والحقوق.
وقال طاوس : وهو البُخْل بما في يديه.

فصل في قراءات البخل " بالبخل ".


قرأ العامة :" بالبُخْل " بضم الباء وسكون الخاء.
وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وابن محيصن وحمزة والكسائي " بالبَخَل " بفتحتين، وهي لغة الأنصار.
وقرأ أبو العالية وابن السَّميفع :" بالبَخْل " بفتح الباء وإسكان الخاء.
وعن نصر بن عاصم :" البُخُل " - بضمتين - وكلها لغات مشهورة.
وقال قوم : الفرق بين البخل والسخاء من وجهين : أحدهما : أن البخيل الذي لا يعطي عند السؤال، والسَّخي الذي يعطي بغير سؤال.
وتقدم الفرق بين البُخْل والشُّحِّ في آخر آل عمران.
قوله :﴿وَمَن يَتَوَلَّ﴾ أي : عن الإيمان ﴿فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾.
قرأ نافع وابن عامر :﴿فإن الله الغني الحميد﴾ بإسقاط " هو "، وهو ساقط في مصاحف " المدينة " و " الشام "، والباقون : بإثباته، وهو ثابت في مصاحفهم، فقد وافق كل مصحفه.
قال أبو علي الفارسي : من أثبت " هو " يحسن أن يكون فصلاً، ولا يحسن أن يكون ابتداء ؛ لأن الابتداء لا يسوغ حذفه.
٤٩٧


الصفحة التالية
Icon