قرأ الحسن :" رَآفة " بزنة " فَعَالة ".
قال مقاتل : المراد من الرَّأفة والرحمة : المودَّة فكان يوادّ بعضهم بعضاً كما وصف الله - تعالى - أصحاب محمد ﷺ بقوله :﴿رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح : ٢٩].
وقيل : هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصَّفْحِ، وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قستْ قلوبهم، وحرّفوا الكلم عن مواضعه.
والرَّأفة :[اللِّين.
والرحمة :] الشَّفقةُ.
وقيل : الرأفة تخفيف الكُل، والرحمة تحمل الثقل.
وقيل : الرَّأفة : أشد من الرحمة وتم الكلام.
فصل في أن أفعال العبد خلق لله تعالى دلت هذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى ؛ لأنه حكم بأن هذه مجعولة، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية.
قال القاضي : المراد بذلك أنه - تعالى - لطف بهم حتى قويت دواعيهم في الرَّهبانية التي هي تحمّل الكلفة الزائدة على ما يجب.
والجواب : أن هذا ترك للظاهر من غير دليل، وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا ؛ لأن الحال الاستواء بمنع حصول الرُّجحان ؛ لأنَّ حصول الرجحان عند الاستواء ممتنع، فعند المرجوحية أولى بأن يصير ممتنعاً، وإذا امتنع المرجُوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض.
قوله :﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا﴾.
في انتصابها وجهان : أحدهما : أنها معطوفة على " رأفة ورحمة ".
و " جعل " إما بمعنى " خَلَق "، وإما بمعنى " صيّر "، و " ابتدعوها " على هذا صفة لـ " رَهْبَانية "، وإنما خصّت بذكر الابتداع ؛ لأن الرَّأفة والرحمة في القلب أمر غريزة لا تكسُّب للإنسان فيها، بخلاف الرهبانية، فإنها أفعال البدن، وللإنسان فيها تكسُّب، إلا أن أبا البقاء منع هذا الوجه، بأن ما جعله الله لا يبتدعونه.
٥٠٣
وجوابه : ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك منها.
وقال أيضاً : وقيل : هو معطوف عليها، و " ابتدعوها " نعتٌ له، والمعنى : فرض عليهم لزوم رهبانية ابتدعوها، ولهذا قال :﴿مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ﴾.
والوجه الثاني : أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الظَّاهر.
وقال أبو علي :" ابتدعوها رهبانية "، وتكون المسألة من باب الاشتغال، وإليه نحا الفارسي والزمخشري، وأبو البقاء وجماعة.
إلاَّ أن هذا يقال : إنه إعراب المعتزلة، وذلك أنهم يقولون : ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له، فالرأفة والرحمة لما كانت من فعل الله نسب خلقهما إليه، والرهبانية لمَّا لم تكن من فعل الله - تعالى - بل من فعل العبد يستقلّ بفعلها نسب ابتداعها إليه.
ورد عليهم أبو حيَّان هذا الإعراب من حيث الصناعة، وذلك أن من حق الاسم المشتغل عنه ألاَّ يصلح للرفع بالابتداء، و " رَهْبَانية " نكرة لا مسوغ للابتداء بها، فلا يصلح نصبها على الاشتغال.
قال شهاب الدين : وفيه نظر لأنا لا نسلم أولاً اشتراط ذلك، ويدل عليه قراءة من قرأ :﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا﴾ [النور : ١] بالنصب على الاشتغال، كما تقدم تحقيقه، ولئن سلمنا ذلك فثمَّ مسوغ وهو العطف، ومن ذلك قول الشَّاعر :[البسيط] ٤٧٢٦ - عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتلتِي
فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امْرُؤٌ سَمِعَا ؟
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٠٢
وقول الآخر :[الطويل] ٤٧٢٧ - تَغَشَّى ونَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا
مُحَيَّاكِ، أخْفَى ضَوْءُهُ كُلَّ شَارِقِ
ذكر ذلك ابن مالك.
و " الرَّهْبَانية " : منسوبة إلى " الرَّهْبَان "، وهو " فَعْلاَن " من رهب، كقولهم : الخَشْيَان من خشي، وقد تقدم معنى هذه المادة في سورة " المائدة ".
وقرئ بضم الراء.
٥٠٤