اللَّمَم هاهنا : الإلمام بالنساء وشدة الحِرْصِ والتَّوقَانِ إليهن.
فصل في الظهار اعلم أن الظِّهار كان من أشدّ طلاق الجاهلية ؛ لأنه في التحريم أوكدُ ما يمكن، فإن كان الحكم صار مقرّراً في الشرع كانت الآية ناسخة له، وإلا لم يفد نسخاً ؛ لأن النسخ إنما يدخل في الشَّرائع لا في عادة الجاهلية، لكن الذي روي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لها :" حَرُمْتِ " أوْ " مَا أَرَاكَ إلاَّ قَدْ حَرُمْتِ " كالدلالة على أنه كان شرعاً.
فأما ما روي أنه توقف في الحكم فلا يدل على ذلك.
وفي الآية دليل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق ولم يَبْقَ له في مهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك المُهِمّ.
فصل فيما حكاه الله عن هذه المرأة اعلم أنَّ الله - تعالى - حكى عن هذه المرأة أمرين : أحدهما : المجادلة وهو قوله تعالى :﴿تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا﴾ أي : في شأن زوجها، وتلك المجادلة هي أنه - عليه الصلاة والسلام - كلما قال لها :" حَرُمَتْ عَليْهِ "، قالت : والله ما ذكر طلاقاً.
والثاني : شكواها إلى الله فَاقتَهَا ووحْدتهَا، وقولها : إن لي صبية صغاراً.
فصل في سمع الله تعالى قال القرطبي : الأصل في السماع إدراك المسمُوعات وهو اختيار أبي الحسن، وقال ابن فورك : الصحيح أنه إدراك المسمُوع.
وقال الحاكم أبو عبد الله :" السميع " هو المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الأذُن كالأصَم من النَّاس لما لم يكن له هذه الحاسة لم يكن أهلاً لإدراك الصوت، والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة، والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متّصفاً بهما.
وقرئ :" تُحَاوِرُكَ " أي : تراجعك الكلام.
٥١٦
قوله :﴿وَتَشْتَكِى إِلَى اللَّهِ﴾ يجوز فيه وجهان : أظهرهما : أنه عطف على " تجادلك " فهي صلة أيضاً.
والثاني : أنها في موضع نصب على الحال، أي : تجادلك شاكيةً حالها إلى الله.
وكذا الجملة من قوله :﴿وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ﴾ والحالية فيها أبعد.
و " شكا " و " اشتكى " بمعنى واحد.
و " المُحَاورة " : المراجعة في الكلام، حار الشيء يحُور حَوْراً، أي : رجع يرجع رجوعاً.
ومنه :" نعوذ بالله من الحور بعد الكورِ "، وكلمته فما أحار بكلمة، أي : فما أجاب.
﴿إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾.
أي : يسمع كلام من يناديه، ويبصر من يتضرع إليه.
قوله :﴿الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ﴾ تقدم الخلاف في " تُظَاهرون " في سورة " الأحزاب "، وكذا في ﴿اللاَّئِي﴾ [الأحزاب : ٤].
وقرأ أبيّ هنا :" يَتَظَاهرون ".
وعنه أيضاً :" يتظهرون ".
وفي " الذين " وجهان : أحدهما : أنه مبتدأ، وخبره : قوله ﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ﴾.
الثاني : أنه منصوب بـ " بصير " على مذهب سيبويه في جواز إعمال " فعيل " قاله مكي.
يعني : أن سيبويه يعمل " فعيلاً " من أمثلة المبالغةِ، وهو مذهب مطعُون فيه على سيبويه ؛ لأنه استدلّ على إعماله بقول الشاعر :[البسيط] ٤٧٢٩ - حَتَّى شَآهَا كَلِيلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ
بَاتَتْ طِرَاباً وبَاتَ اللَّيْلَ لَمْ يَنَمِ
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥١٣
٥١٧
ورد عليه بأن " موهناً " ظرف زمان، والظروف يعمل فيها روائح الأفعال، والمعنى : يأتي " ما " قاله مكي.
وقرأ العامة :" أمَّهاتِهِمْ " بالنصب على اللغة الحجازية الفصحى، كقوله ﴿مَا هَـذَا بَشَراً﴾ [يوسف : ٣١].
وعاصم في رواية بالرفع على اللغة التميمية، وإن كانت هي القياس لعدم اختصاص الحرف، وقرأ عبد الله :" بأمَّهاتهم " بزيادة الباء وهي تحتمل اللغتين.
وقال الزمخشري :" وزيادة الباء في لغة من يَنْصِبُ ".
قال شهاب الدين : هذا هو مذهب أبي عليّ، يرى أن " الباء " لا تزاد إلا إذا كانت عاملة، فلا تزاد في التميمية، ولا في الحجازية إذا منع من عملها مانع، نحو :" ما إن زيد بقَائمٍ "، وهذا مردُود بقول الفرزدق وهو تميمي :[الطويل] ٤٧٣٠ - لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتَارِكِ حَقِّهِ
ولا مُنْسِئُ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ
وبقول الآخر :[المتقارب] ٤٧٣١ - لَعَمْرُكَ مَا إنْ أبُو مالكٍ
بِوَاهٍ ولا بِضَعيفٍ قُوَاه
فزادها مع " ما " الواقع بعدها " إن ".
فصل في التعبير بلفظ الظهار ذكر الظَّهْر كناية عن معنى الركوب، والآدمية إنما يُرْكَب بطنُها، ولكن كنَّى عنه بالظَّهر ؛ لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره فكنَّى بالظهر على الركوب، ويقال : نزل عن امرأته أي : طلقها كأنه نزل عن مركُوبه، ومعنى : أنت عليَّ كظهرِ أمي،
٥١٨