قوله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ﴾ فإنَّ فيه نَفْيَ المُسَاواة.
وقرأ أبو رجاء :" يَحُبُّونَهُمْ " بفتح الياء من " حَبَّ " ثلاثيّاً، و " أَحَبَّ " أكثر، وفي المَثَل :" مَنْ حَبَّ طَبَّ ".

فصل في المراد من قوله كحب الله في قوله : كَحُبِّ الله قولان : الأول : كَحُبِّهِم للَّهِ.


والثاني : كَحُبِّ المؤمنين للَّهِ، وقد تقدَّم ردُّ هذا القَوْلِ.
فإِن قيل : العاقل يستحيل أنْ يكون حبُّه للأوثان كحُبِّه لله ؛ وذلك لأنه بضَرُورة العَقْل يَعْلَمُ أنَّ هذه الأوثانَ ينارٌ لا تسمع، ولا تعقلُ، وكانوا مُقرِّين بأنَّ لهذا العالَم صانعاً مدَبِّراً حَليماً ؛ كما قال تعالى :﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان : ٢٥] فمع هذا الاعتقادِ، كيف يُعْقَلُ أنْ يكُونَ حبِّهُمْ لتلك الأوثان كحُبِّهم لله تعالى، وقال تعالى ؛ حكايةً عنهم أنَّهُم قالوا ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ﴾ [الزمر : ٣] فكيف يعقل الاستواءُ في الحُبِّ ؟ والجواب : كحُبِّ الله تعالى في الطَّاعة لها، والتَّعْظِيمِ، فالاستواءُ في هذه المحبَّة لا ينافي ما ذكرتُموه.
قوله تعالى :" أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ " : المُفضَّلُ عليه محذوفٌ وهم المُتَّخِذُون [الأندادَ، أي : أشدُّ حُبّاً لله من المُتَّخِذِين] الأنْدادَ لأوثانهم ؛ وقال أبو البقاء : ما يتعلَّق به " أَشَدُّ " محذوفٌ، تقديره : أشَدُّ حُبّاً للَّهِ مِنْ حُبِّ هؤلاء للأنداد، والمعنى : أنَّ المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر من محبَّة هؤلاء [أوثَانَهُمْ، ويحتمل أن يكون المعنى : أن المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر ممَّا يحبُّه هؤلاء] المتَّخذون الأنداد ؛ لأنهم لم يُشْرِكُوا معه غيره، وأتى بـ " أشَدُّ " موصِّلاً بها إلى أفعل التَّفضيل من مَادَّة " الحُبِّ " ؛ لأنَّ " حُبَّ " مبنيٌّ للمفعول، والمبنيُّ للمفعول لا يُتعجَّب منه، ولا يبنى منه " أَفْعَل " للتَّفضيلِ ؛ فلذلك أتى بما يجوز فيه ذلك.
[فأمَّا قوله :" مَا أَحَبَّهُ إِلَيَّ " فساذٌّ على خلافٍ في ذلك، و " حُبّاً " تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ، تقديره : حُبُّهُمْ لِلَّهِ أشدٌّ].
فصل في معنى قوله أشد حبّاً لله معنى " أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ "، أي : أثبتُ وأدْوَمُ على حُبِّهِ ؛ لأنَّهم لا يختارون على الله ما
١٣٨
سواه، والمشركون إذا اتَّخذوا صَنَماً، ثم رأوا أحسن منه، طرحوا الأوَّل، واختاروا الثَّاني قاله ابن عبَّاس - رضي الله عنهما.
وقال قتادة : إن الكافِرَ يُعْرِضُ عن معبودِهِ في وقت البَلاء، ويُقبل على الله تعالى [كما أخبر الله تعالى عنهم، فقال :﴿فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ﴾ [العنبكوت : ٦٥] والمؤمن لا يُعْرِضُ عن الله] في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء، والشِّدَّة والرَّخاء ؛ وقال سعيد بن جُبير : إِنَّ الله - عزَّ وجلّ - يأمُر يَوْم القيامةِ من أحرق نفسه في الدُّنيا على رُؤية الأصنام : أنْ يَدْخُلُوا جهنَّمَ مع أصنامِهِم، فلا يَدْخُلُون ؛ لعلمهم أن عذابَ جَهَنَّم على الدوام، ثم يقول للمؤمنين، وهم بين أَيدِي الكفَّار : إنْ كُنْتُم أحِبَّائي فادْخُلُوا جَهَنَّم فيقتحمون فيها، فيُنادي مُنادٍ منْ تحت العرش ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ﴾.
وقيل : وإنَّما قال :﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ﴾ ؛ لأنَّ الله تبارك تعالى أحَبَّهم أوَّلاً، ثم أحبُّوه، ومَنْ شهد له المعبود بالمحبّة، كانت محبته أتمَّ ؛ قال الله تعالى :" يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه ".
فإن قيل : كيف يمكن أن تكون محبَّةُ المؤمن لله أشَدَّ مع أنَّا نَرَى اليهود يأتُون بطاعاتٍ شاقَّة، لا يأتي بمثلها أحَدٌ من المُؤمنين، ولا يأتُون بها إلا الله تعالى، ثم يقتلون أنفُسهم حبّاً لله ؟ والجوابُ من وجوه : أحدها : ما تَقَدَّم من قول ابن عَبَّاس، وقتادة، وسعيد بن جبير.
وثانيها : أنَّ مَنْ أحب غيره رضي بقضائه، فلا يتصرف في مُلْكه، فأولئك الجُهَّال [قَتَلُوا أنْفُسَهُمْ بِغَيْرِ إذْنه، إنَّما المُؤمنون الذي يقتلُون أنْفُسَهم بإذْنِه، وذلك في الجهاد].
وثالثها : أنَّ الإنسَانَ، إذا ابتلي بالعَذَاب الشَّديد لا يمكنُهُ الاشتغال بمعرفة الرَّبِّ، فالذي فعلوه باطلٌ.
ورابعها : أنَّ المؤمنين يوحِّدون ربَّهم، فمحبتهم مجتمعةٌ لواحدٍ، والكفَّارُ يعبدون مع الصنم أصناماً، فتنقص مبحَّة الواحد منهم، أما الأإله الواحد فتنضم محَّبة الجمع إليه.
قوله تعالى :﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ااْ﴾ جواب " لَوْ " محذوفٌ، واختلف في تقديره، ولا يظهر ذلك إلاَّ بعد ذكر القراءات الواردة في ألفاظ هذه الآية الكريمة.
قرأ عامر ونافعٌ :" وَلَو تَرَى " بتاء الخطاب، " أنَّ القُوَّة " و " أَنَّ اللَّهَ " بفتحهما.
وقرأ ابن عامر :" إِذْ يُرَوْنَ " بضم الياء، والباقون بفتحها.
١٣٩


الصفحة التالية
Icon