وقرأ أبو رجاء :" عَشِيْراتهم "، بالجمع، كما قرأها أبو بكر في " التوبة " كذلك.
فصل في مناسبة الآية لما بالغ في المنع من هذه الموادة في الآية الأولى من حيث أن الموادة مع الإيمان لا يجتمعان، بالغ هاهنا أيضاً من وجوه، وهي قوله تعالى :﴿وَلَوْ كَانُوا ااْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ﴾ والمعنى : أن الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة، ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطرحاً بسبب الدين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم " أحد "، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم " بدر "، وأبي بكر - رضي الله عنه - قال ابن جريح :" حدثت أن أبا قحافة سبَّ النبي ﷺ فصكّه أبو بكر - رضي الله عنه - صكَّة سقط منها على وجهه ثم أتى النبي ﷺ فذكر ذلك له، فقال :" أو فَعَلْتَهُ لا تَعُدْ إليْهِ "، فقال : والذي بعثك بالحق نبيًّا لو كان السيف منِّي قريباً لقتلته "، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير، وعلي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة - رضي الله عنهم - قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يوم " بدر " أخبر أن هؤلاء لم يوادُّوا أقاربهم وعشائرهم غضباً لله تعالى ودينه.
فصل في الاستدلال بالآية على معاداة القدرية قال القرطبي : استدل مالك - رحمه الله - بهذه الآية على معاداة القدرية، وترك مجالستهم.
قال أشهب عن مالك : لا تجالسوا القدرية، وعادوهم في الله، لقول الله عز وجل :﴿لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾.
قال القرطبي : وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظُّلم والعدوان.
وعن الثوري - رضي الله عنه - أنه قال : كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان.
وعن عبد العزيز بن أبي رواد : أنه لقي المنصور في الطّواف فلما عرفه هرب منه، وتلا هذه الآية.
وعن النبي ﷺ أنه كان يقول :" اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لفَاجِرِ عِنْدِي نِعْمَةً، فإنِّي وجَدْتُ فِيْمَا أوْحَيْتَ إليَّ :﴿لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ " الآية.
قوله :﴿أُوْلَائِكَ كَتَبَ﴾.
قرأ العامّة :" كَتَبَ " مبنيًّا للفاعل، وهو الله - سبحانه وتعالى - " الإيمان " نصباً، وأبو حيوة في رواية المفضل :" كُتِبَ " مبنيًّا للمفعول " الإيمان " رفع به.
والضمير في " منه " لله تعالى.
وقيل : يعود على " الإيمان " ؛ لأنه روح يحيا به المؤمنون في الدارين.
قاله السدي، أي : أيدهم بروح من الإيمان، يدل عليه قوله تعالى :﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا﴾ [الشورى : ٥٢].
فصل في معنى كتب الإيمان معنى " كتب الإيمان " أي : خلق في قلوبهم التصديق، يعني من لم يُوالِ من حاد الله.
وقيل :" كَتَبَ " : أثبت.
قاله الربيع بن أنس.
وقيل : جعل كقوله تعالى :﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران : ٥٣] أي : اجعلنا، وقوله تعالى :﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [الأعراف : ١٥٦].
وقيل " كتب " أي : جمع، ومنه الكتيبة، أي : لم يكونوا ممن يقول : نؤمن ببعض، ونكفر ببعض.
وقيل :﴿كتب في قلوبهم الإيمان﴾ أي : على قلوبهم الإيمان، كقوله تعالى :﴿فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه : ٧١].
وخص القلوب بالذكر، لأنها موضع الإيمان.
قوله :" وأيَّدهُمْ "، أي : قوَّاهم ونصرهم بروح منه.
قال الحسن : بنصر منه.
قال ابن عباس : نصرهم على عدوهم، وسمى تلك النصرة روحاً ؛ لأنه به يحيا أمرهم.
٥٦٠
وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه : بالقرآن وحججه.
وقال ابن جريح : بنُورٍ وبُرهان وهدى.
وقيل : برحمة من الله.
وقيل : أيَّدهم بجبريل صلوات الله وسلامه عليه.
قوله :﴿وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾ أي : قبل أعمالهم ﴿وَرَضُواْ عَنْهُ﴾ فرحوا بما أعطاهم ﴿أُوْلَائِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وهذه في مقابلة قوله تعالى :﴿أُوْلَائِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾، وهذه الآية زجر عن التودّد إلى الكُفَّار والفُسَّاق، والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب.
روى الثعلبي في تفسيره عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله ﷺ :" مَنْ قَرَأ سُورَةَ المُجادلةِ كُتِبَ مِنْ حِزْبِ الله - تعالى - يَوْمَ القِيَامَةِ ".
٥٦١
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٥٥٤


الصفحة التالية
Icon