وصح عن عمر أنه أبقى سواد " العراق " و " مصر " وما ظهر عليه من الغنائم ليكون في أعطيات المقاتلة، وأرزاق الجيش والذَّراري، وأن الزبير وبلالاً وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم، فكره ذلك منهم.
واختلف فيما فعل من ذلك : فقيل : إنه استطاب أنفس أهل الجيش فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين فله، ومن أبى أعطاه ثمن حظه فمن قال : إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي ﷺ لأنه قسم " خيبر "، لأنّ اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها.
وقيل : إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش.
وقيل : إنه تأول في ذلك قول الله تعالى :﴿لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ﴾ إلى قوله :﴿رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر : ١٠] على ما تقدم أيضاً.
فصل في اختلاف الفقهاء في قسمة العقار اختلفوا في قسمة العقار، فقال مالك - رضي الله عنه - للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : الإمام مخير بين قسمتها، أو وقفها لمصالح المسلمين.
وقال الشافعي - رضي الله عنه - ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال، فمن طاب نفساً عن حقه للإمام أن يجعلها وقفاً عليهم فله، ومن لم تطب نفسه فهو أحق بماله.
وعمر - رضي الله عنه - استطاب نفوس القائمين واشتراها منهم، وعلى هذا يكون قوله تعالى :﴿وَالَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ﴾ [الحشر : ١٠] مقطوعاً مما قبله، وأنهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم.
فصل في فضل المدينة قال القرطبي :" روى ابن وهب قال : سمعت مالكاً يذكر فضل " المدينة " على غيرها من الآفاق، فقال : إن " المدينة " تُبُوئتْ بالإيمان والهجرة، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف، ثم قرأ :﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾ الآية ".
٥٨٧
قوله تعالى :﴿وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ﴾.
فيه وجهان : أحدهما : أن الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه، والمعنى : لا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيءِ وغيره، والمحتاج إليه يسمى حاجة تقول : خذ منه حاجتك، وأعطاه من ماله حاجته.
قاله الزمخشري.
فعلى هذا يكون الضمير الأول للجائين بعد المهاجرين، وفي " أوتُوا " للمهاجرين.
والثاني : أن الحاجة هنا من الحسد.
قال الحسنُ : حسداً وحزازة مما أوتوا المهاجرين دونهم، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة ؛ لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية.
والضميران على ما تقدم قبل.
وقال أبو البقاء :" الحاجة مس حاجة ".
أي : أنه حذف المضاف للعلم به، وعلى هذا، فالضميران لـ ﴿الذين تبوّءوا الدار والإيمان﴾.
وقال القرطبي :" يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خُصُّوا به من مال الفيءِ وغيره، كذلك قال الناس.
وفيه تقدير حذف مضافين، والمعنى : مس حاجة من فقد ما أوتوا، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة ".
فصل في سبب نزول الآية قال القرطبي :" كان المهاجرون في دور الأنصار، فلما غنم رسول الله ﷺ أموال بني النضير، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم وإشراكهم في الأموال، ثم قال رسول الله ﷺ :" إنْ أحْبَبْتُمْ قَسَمْتُ مَا أفَاءَ اللَّه عَلَيَّ مِن بَنِي النَّضيرِ بَيْنكُمْ وبَيْنَهُمْ، وكَان المُهَاجرُونَ على مَا هُمْ عليْهِ مِنَ السُّكْنَى في مَسَاكنكُمْ وأمْوالكُمْ، وإنْ أحَبَبْتُمْ أعْطَيتُهم وخَرَجُوا من دِيَارِكُمْ "، فقال سَعْدُ بنُ عُبَادَةَ وسَعْدُ بْنُ معاذٍ - رضي الله عنهما - بَلْ نَقْسِمهُ بَيْنَ المهاجرينَ، ويُكونُونَ في دُورنا كَمَا كَانُوا، ونادت الأنصار : رَضيْنَا وسلَّمْنَا يا رسُولَ الله، فقال رسُولُ الله ﷺ :" اللَّهُمَّ ارْحَمِ الأنصَارَ وأبْنَاءَ الأنْصَارِ " وأعطى رسول الله للمهاجرين، ولم يعط الأنصار إلا الثلاثة الذين ذكرناهم ".
٥٨٨