قوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾.
روى الدَّارميُّ في مسنده قال : أنْبَأنَا مُحمَّدُ بنُ كثيرٍ عَنِ الأوزاعيِّ عنْ يَحْيى بْنِ أبِي كثيرٍ عن أبِي سلمةَ عن عبْدِ اللَّهِ بن سلام، قال : قَعَدنَا مع نفر من أصحاب النبي ﷺ فتذاكرنا فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا ؟ فأنزل الله - تعالى - ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ حتى ختمها، قال عبد الله : قرأها علينا رسول الله ﷺ حتى ختمها، قال أبو سلمة : فقرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها، قال يحيى : فقرأها علينا أبو سلمة، فقرأها علينا يحيى، فقرأها علينا الأوزاعي، فقرأها علينا محمد، فقرأها علينا الدارمي.
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : قال عبد الله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه، [فلما نزل الجهاد كرهوه].
[وقال الكلبي : قال المؤمنون : يا رسول الله لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليها]، فنزلت :﴿هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الصف : ١٠]، فمكثوا زماناً يقولون : لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين ؟ فدلَّهم الله عليها بقوله :﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ﴾ [الصف : ١١]، فابتلوا يوم أحد، ففروا، فنزلت هذه الآية تعبيراً لهم بترك الوفاء.
وقال محمَّدُ بنُ كعبٍ : لما أخبر الله - تعالى - نبيه ﷺ بثواب شهداء " بدر "، قالت الصحابة رضي الله عنهم اللهم اشهد لئن لقينا قتالاً لنفرغنّ فيه وسعنا ففروا يوم أحد، فعيرهم الله بذلك.
وقال قتادة والضحاك :" نزلت في قوم كانوا يقولون : نحن جاهدنا وابتلينا، ولم يفعلوا.
وقال صهيب : كان رجل قد آذى المسلمين يوم بدر، وأنكاهم، فقتله، فقال رجل : يا
٤٤
نبي الله، إني قتلت فلاناً ففرح النبي ﷺ بذلك، فقال عمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف : يا صُهيبُ، أما أخبرت رسول الله ﷺ أنك قتلت فلاناً، فإن فلاناً انتحل قتله، فأخبره، فقال : أكذلك يا أبا يحيى ؟ قال : نعم، والله يا رسول الله "، فنزلت الآية في المنتحل.
وقال ابن زيد : نزلت في المنافقين، كانوا يقولون " للنبي " ﷺ وأصحابه : إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم، وقاتلنا، فلما خرجوا نكثوا عنهم وتخلفوا.
فصل قال القرطبي :" هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملاً فيه طاعة أن يفي بهاط.
وفي صحيح مسلم عن أبي موسى : أنه بعث قراء إلى أهل " البصرة "، فدخل عليه ثلاثمائة رجل، قد قرأوا القرآن، فقال أنتم خيار أهل " البصرة " وقراؤهم، قاتلوه ولا يطولن عليكم الأمدُ، فتقسوا قلوبكم، كما قست قلوب من قبلكم، وإنا كنا نقرأ سورة تشبهها في الطول والشدة بـ " براءة "، فأنسيتها غير أني قد حفظت منها " لَوْ كَان لابْنِ آدَمَ وادِيَانِ مِنْ مالٍ لابْتَغَى وَادِياً ثَالثاً، ولا يَمْلأُ جَوَْ ابنِ آدمَ إلاَّ التُّرابُ "، وكُنَّا نقرأُ سُورة تُشبههَا بإحْدَى المُسَبِّحاتِ، فأنْسيتُهَا غير أنِّي قد حفظت منها :" يا أيُّها الذين آمنوا لِمَ تقُولُون ما لا تفعَلُونَ، فتُكْتب شهادة في أعناقكم، فتسألون عنها يوم القيامة ".
قال ابن العربي : وهذا كله ثابت في الدين، أما قوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ فثابتٌ في الدين لفظاً ومعنى في هذه السورة، وأما قوله : شهادة في أعناقكم عنها يوم القيامة، فمعنى ثابت في الدين، فإن من التزم شيئاً لزمه شرعاً، والملتزم على قسمين :[أحدهما : النذر، وهو] على قسمين : نذر تقرب مبتدأ، كقوله لله عليّ صلاة أو صوم أو صدقة، ونحوه من القرب، فهذا يلزم الوفاء به إجماعاً.
ونذر مباح، وهو ما علق به شرط رغبة، كقوله : إن قدم غائبي فعلي صدقة، أو علق بشرط رهبة، كقوله : إن كفاني الله شر كذا فعليَّ صدقة، ففيه خلاف : فقال مالك وأبو حنيفة : يلزم الوفاء به.
٤٥