فصل في ختم الآية بـ " لا يفقهون " قال ابن الخطيب : فإن قيل : ما الحكمةُ في أنه تعالى ختم الآية الأول بقوله :" لا يَفْقَهُونَ " وختم الثَّانية بقوله :" لاَ يَعْلمُونَ " ؟.
فالجواب : ليعلم بالأولى قلة كياستهم وفهمهم، وبالثانية حماقتهم وجهلهم، ولا يفقهون من فِقهَ يَفْقَهُ، كعلِمَ يَعْلَمُ، أو من فقُهَ يَفقهُ، كعَظُمَ يَعظُمُ، فالأول لحصولِ الفقه بالتكلُّفِ، والثاني لا بالتكلُّفِ، فالأول علاجيٌّ، والثاني مزاجي.
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ١١٥
قوله تعالى :﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾.
حذَّر المُؤمنين أخلاق المنافقين، أي : لا تشتغلوا بأموالكم كما فعل المُنافقُون إذ قالُوا - لأجْلِ الشُّحِّ بأموالهم - :﴿لاَ تُنفِقُواْ عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّواْ﴾.
وقوله :﴿عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾.
أي : عن الحجِّ والزكاة.
وقيل : عن قراءة القرآن.
وقيل : عن إدامة الذكر.
وقال الضحاك : عن الصلواتِ الخمس.
وقال الحسنُ : عن جميعِ الفرائضِ، كأنه قال : عن طاعة الله.
وقيل : هذا خطاب للمنافقين، أي : آمنتم بالقول فآمنوا بالقلب، ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ يشتغل بالمالِ والولدِ عن طاعةِ ربهِ ﴿فَأُوْلَـائِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾.
قوله :﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾.
قال ابن عباس : يُريدُ زكاة الأمْوالِ.
١١٧
﴿مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾.
قال القرطبي :" هذا يدل على وجوب تعجيل إخراج الزَّكاةِ ولا يجوزُ تأخيرها أصلاُ وكذلك سائر العبادات إذا دخل وقتها ".
قال ابن الخطيب : وبالجملة فقوله :﴿لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ تنبيه على المحافظة على الذِّكرِ قبل المَوْتِ.
وقوله :﴿وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ﴾ : تنبيه على الشكر كذلك.
قوله :﴿فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا اا أَخَّرْتَنِى ﴾.
أي : هلاَّ أخَّرتَنِي.
وقيل :" لا " صلة، فيكونُ الكلامُ بمعنى التَّمنِّي.
أي لو أخرتني إلى أجل قريب فنسأل الرجعة إلى الدنيا لنعمل صالحاً.
روى الترمذي عن الضحاك بن مزاحم عن ابن عباس قال :" مَنْ كَانَ لَهُ مالٌ يُبلِّغهُ حَجَّ بَيْتِ ربِّهِ أو يَجبُ عليهِ فِيهِ زكاةٌ فَلمْ يَفْعَلُ، سَألَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الموْتِ، فقال رجُلٌ : يا ابْنَ عبَّاسٍ، اتَّق الَّهِ، إنَّما سأل الرَّجعة الكُفَّارُ، فقال : سأتلُو عليْكَ بذلك قرآناً ﴿ يا أيها الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ إلى قوله ﴿وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ قال : فما يوجبُ الزَّكاة ؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعداً، قال : فما يوجبُ الحجَّ ؟ قال : الزادُ والراحلةُ ".
قال القرطبيُّ : ذكره الحليمي في كتاب " منهاج الدين " مرفوعاً، فقال : وقال ابن عبَّاس " قال رسول الله ﷺ :" مَنْ كَانَ عِنْدهُ مالٌ يُبلِّغهُ الحَجَّ " الحديث.
قال ابنُ العربيِّ :" أخذ ابنُ عباس بعموم الآية في إنفاق الواجب خاصة دون النفلِ، فأما تفسيره بالزَّكاةِ فصحيح كلُّه عموماً وتقديراً بالمائتين.
وأما القولُ بالحج ففيه إشكالٌ ؛ لأننا إن قلنا : الحج على التراخي ففي المعصية بالموتِ قبل الحج خلافٌ بين العلماءِ، فلا تخرج الآية عليه.
وإن قلنا : الحج على الفور فالعمومُ في الآية صحيحٌ لأنَّ من وجب عليه الحج فلم
١١٨
يؤده لقي من الله ما يودُّ لو أنه رجع ليأتي بماترك من العبادات.
وأما تقدير الأمر بالزاد والراحلة ففي ذلك خلاف مشهور بين العلماء، وليس لكلام ابن عباس فيه مدخل، لأجل أن الرجعة والوعيد لا يدخل في المسائل المجتهد فيها ولا المختلف عليها، وإنما تدخلُ في المتفقِ عليه.
والصحيح تناوله للواجب من الإنفاق بالإجماع أو بنصّ القرآن ؛ لأن ما عدا ذلك لا يتحقق فيه الوعيدُ ".
قوله :﴿فَأَصَّدَّقَ﴾.
نصب على جواب [التمني] في قوله :﴿لَوْلا اا أَخَّرْتَنِى ﴾.
وقرأ أبي وعبد الله وابن جبير :" فأتَصَدَّقَ "، وهي أصل قراءة العامة ولكن أدغمت الفاء في الصاد.
قوله :" وأكُنْ ".
قرأ أبو عمرو :" وأكونَ " بنصب الفعل عطفاً على " فأصَّدَّقَ " ز والباقون :" وأكُنْ " مجزوماً، وحذفت الواوُ لالتقاءِ الساكنين.
واختلف عباراتُ الناس في ذلك.
فقال الزمخشري :" عطفاً على محل " فأصَّدَّقَ " كأنَّه قيل : إنْ أخَّرتني أصَّدقْ وأكُنْ ".
وقال ابن عطية : عطفاً على الموضع : لأنَّ التقدير : إن أخرتني أصَدقْ وأكُنْ، وهذا مذهب أبي علي الفارسي ".
وقال القرطبي :" عطلفٌ على موضع الفاء، لأن قوله :" فأصدق " لو لم تكن الفاء لكان مجزوماً، أي " أصَّدَّقْ "، ومثله :﴿مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ﴾ [الأعراف : ١٨٦] فيمن جزم.
فأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غيرُ هذا، وهو أنه جزمُ على توهم
١١٩


الصفحة التالية
Icon