الثاني : أن ينتصب على المصدريَّة، أي :" لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً ".
فصل في تقرير هذا الجواب في تقرير هذا الجواب وجوه : الأوَّل : أنه يقال للمقلِّد : هل تعترف بأنَّ شرط جواز تقليد الإنسان : أن يعلم كونه مُحِقَّا، أم لا ؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده، إلاَّ بعد أن تعلم كونه محقّاً، فكيف عرفت أنه محقٌّ ؛ فإن عرفته بتقليدٍ آخر، لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل، فذاك كافٍ، ولا حاجة إلى التَّقليد، وإن قلت : ليس من شرط جواز تقليده : أن يعلم كونه محقّاً، فإذن : قد جوَّزت تقليده، وإن كان مبطلاً، فإذن : انت على تقليدك لا تعلم أنَّك محقٌّ، أم مبطل.
وثانيها : هب أن ذلك المتقدِّم كان عالماً بهذا إلاَّ أنَّا لو قدَّرنا أن ذلك المتقدِّم ما كان عالماً بذلك الشَّيء قطُّ، ولا اختار فيه ألبتة مذهباً، فأنت ماذا كنت تعمل ؟ فعلى تقدير أنك لا تعلم ذلك المتقدِّم، [ولا مذهبه، كان لا بُدَ من العُدُول إلى النَّظَر فكذا ههنا.
وثالثها : أنك إذا قلَّدت من قبلك، فذلك المتقدِّم] : إن كان عرفه بالتقليد، لزم إما الدَّور،
١٦٠
وإمَّا التسلسل، وإن عرفه بالدليل، وجب أن تطلب اعلم بالدليل، لا بالتَّقليد، لأنَّك لو
١٦١
طلبته بالتقليد، لا بالدَّليل، مع أنَّ ذلك المتقدِّم طلبه بالدليل لا بالتقليد، كنت مخالفاً له، فثبت أن القول بالقليد يفضي ثبوته إلى نيه، فيكون باطلاً، وإنَّما ذكرت هذه الآية الكريمة عقيب الرجز عن اتباع خطوات الشَّيطان ؛ تنبيهاً على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان، وبين متابعة التَّقليد، وفيه أقوى دليلٍ على جوب النَّظَر، والاستدلال، وترك التَّعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليلٍ، أو على ما يقوله الغير من غير دليل.
فصل في بيان ما يستثنى من التَّقليد قال القرطبيُّ : ذمَّ الله تعالى الكفَّار ؛ باتباعهم لآبائهم في [الباطل] واقتدائهم بهم في الكفر، والمعصية، وهذا الذَّمُّ في الباطل صحيحٌ، وأما التقليد في الحقِّ، فأصل من " أصول الدِّين "، وعصمة من عصم المسلمين، يلجأ إليها الجاهل المقصِّر عن درك النَّظر، واختلف العلماء - رضي الله عنهم - في جوازه في مسائل الأصول، وأمَّا جوازه في مسائل الفروع، فصحيحٌ.
فصل في وجوب التَّقليد على العامِّي قال القرطبيُّ - رضي الله عنه - : فرض العامِّيِّ الذي لا يستقلُّ باستنباط الأحكام من أصولها، لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه، ويحتاج إليه - أن يقصد أعلم من في زمانه ببلده ؛ فيسأله عن نازلته، فيتمثَّل فيها فتواه ؛ لقوله تعالى :﴿فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [النحل : ٤٣] وعليه الاجتهاد في أعلم أهل زمانه بالبحث عنه ؛ حتى يتفق أكثر الناس عليه، وعلى العالم أيضاً أن يقلِّد عالماً مثله في نازلةٍ خفي عليه وجه الدليل فيها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٥٦
لما حكى عن الكفَّار أنَّهم عند الدُّعاء إلى اتِّباع ما أنزل الله تعالى، تركوا النَّظر،
١٦٢