أي : قاصد في أسواقها وجائر ".
وكذا قال القرطبيُّ : هو معطوف على " صافَّاتٍ " عطف المضارع على اسم الفاعل كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر :" بَاتَ يُغشِّيها " البيت.
قال شهاب الدين : هو مثله في عطف الفعل على اسم الفاعل إلا أن الاسم فيه مؤولٌ بالفعل عكس هذه الآية، ومفعول " يقبِضنَ " محذوف، أي : ويقبضن أجنحتهن.
قاله أبو البقاء، ولم يقدر لـ " صَافَّاتٍ " مفعولاً كأنه زعم أن الاصطفاف في أنفسها، والظاهر أن المعنى : صافات أجنحتها وقابضات، فالصف والقبض منها لأجنحاتها.
ولذلك قال الزمخشري :" صافَّاتٍ " باسطات أجنحتهن، ثم قال : فإن قلت : لمقال : ويقبضن، ولم يقل :" قابضات " ؟.
قلت : لأن الطيران هو صف الأجنحة ؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات، يكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح.
قوله " مَا يُمسِكُهُنَّ ".
يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وأن تكون حالاً من
٢٥١
الضمير في " يَقْبِضنَ " قاله أبو البقاء.
والأول اظهر.
وقرأ الزهريُّ : بتشديد السِّين.

فصل في معنى : يقبضن قوله :" ويَقْبِضْنَ ".


أي : يضربن بها لجنوبهن.
قال أبو جعفر النحاس : يقال للطائر إذا بسط جناحية : صاف، وإذا ضمها فأصاب جنبه قابض، لأنه يقبضهما.
قال أبو خراش الشاعر :[الطويل] ٤٨٠٣ - يُبَادِرُ جُنْحَ اللَّيْلِ فهو مُوائِلٌ
يَحُثُّ الجَناحَ بالتَّبسُّطِ والقبْضِ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٢٥٠
وقيل : ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران.
وقوله " ما يُمسِكُهنَّ " أي : ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل ﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾.
قال ابن الخطيب : وفيه وجهان : الول : المراد من " البصير " كونه عالماً بالأشياء الدقيقة، كما يقال : فلان له بصر في هذا الأمر، أي : حذق.
والثاني : أن يجري اللفظ على ظاهره، فتقول :﴿إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ﴾ فيكون رائياً لنفسه، ولجميع الموجودات وهذا الذي يقوله أصحابنا : إنه تعالى شيء يصح أن يكون مرئياً، وأن كل الموجودات كذلك، فإن قيل : البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم، يقال : فلان بصير بكذا إذا كان عالماً قلنا : لا نسلم، فإنه يقال : إن الله سميع بالمسموعات بصير بالمبصرات.
فصل في قوله تعالى ﴿مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَـانُ﴾ دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري له، وقد نسبه للرحم.
قوله :﴿أَمَّنْ هَـذَا الَّذِي﴾.
قرأ العامة : بتشديد الميم على إدغام ميم " أمْ " في ميم " مَنْ " و " أمْ " بمعنى " بَلْ " لأن بعدها اسم استفهام، وهو مبتدأ، خبره اسم الإشارة.
٢٥٢
وقرأ طلحة : بتخفيف الأول وتثقيل الثاني.
قال أبو الفضل : معناه : أهذا الذي هو جند لكم، أم الذي يرزقكم.
و " يَنْصُركُمْ " صفة لجند.
فصل في لفظ جند قال ابن عباس :" جُندٌ لَكُمْ " أي : حزب ومنعه لكم ﴿جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرَّحْمَـانِ﴾، فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه.
ولفظ الجند يوحد، ولهذا قال : هذا الذي هو جند لكم، وهو استفهام إنكاري، أي لا جند لكم يدفع عذاب الله من دون الرحمن، أي : من سوى الرحمن ﴿إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ﴾ من الشيطان يغرهم بأن لا عذاب، ولا حساب.
قال بعض المفسرين : كان الكفار يمتنعون عن الإيمان، ويعاندون الرسول - عليه الصلاة والسلام - معتمدين على شيئين : أحدهما : قوتهم بعددهم ومالهم.
والثاني : اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات، وتدفع عنهم جميع الآفات فأبطل الله عليهم الأول بقوله ﴿أَمَّنْ هَـذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ﴾ الآية، ورد عليهم الثاني بقوله :﴿أَمَّنْ هَـذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ﴾ الآية.
قوله ﴿أَمَّنْ هَـذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ﴾ شرط، جوابه محذوف للدلالة عليه، أي : أفمن يرزقكم غيره.
وقدّر الزمخشريٌّ شرطاً بعد قوله :﴿أَمَّنْ هَـذَا الَّذِي جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ﴾ تقديره :﴿إن أرسل عليكم عذابه﴾ ولا حاجة له صناعة.
فصل في معنى الآية المعنى ﴿أَمَّنْ هَـذَا الَّذِي يَرْزُقُكُم﴾ أي : يعطيكم منافع الدنيا.
وقيل : من آلهتكم " إنْ أمسَكَ " يعني الله تعالى رزقه وهذا مما لا ينكره ذو عقل، وهو أنه تعالى إن أمسك أسباب الرزق كالمطر، والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى :﴿بَل لَّجُّواْ﴾، أي : تمادوا وأصروا " فِي عُتُوٍّ " طغيان " ونُفورٍ " عن الحق، أو تباعد أو إعراض عن الحق.
٢٥٣


الصفحة التالية
Icon