أبواب تأويلات الفلاسفةِ في أمر المعاد فإنهم يقولون في قوله :﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ [الحج : ٢٣] ليس هناك أنهار ولا أشجار، وإنما هو مثل للّذة والسعادة ويقولون في قوله تعالى :﴿ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ﴾ [الحج : ٧٧] وليس هناك ركوع ولا سجود وإنما هو مثل للتعظيم، ومعلوم أن ذلك يفضي إلى رفع الشرائع، وفساد الدينِ، وأما من قال : إنه لا يصار إلى التأويل، إلا عند قيام الدليل على أنه لا يجوز حمله على ظاهره، فهذا قولُ كُلِّ أحد من المتكلمين، فأين الدقائق التي استند هو بمعرفتها والاطلاع عليها بواسطةِ علم البيان، ثم إن قال بعد أن حكى القول بأن المراد بالساق جهنم، أو ساق العرش، أو ساق ملك عظيم إن اللفظ لا يدل إلا على ساق، وأما أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه، ثم ذكر حديث ابن مسعود عن النبي ﷺ " أنَّهُ تعالى يتَمثَّلُ للخَلْق يَوْمَ القِيامةِ حِيْنَ يَمُرُّ المُسْلمُونَ فيقول : مَنْ تَعْبُدُونَ ؟ فيقولون : نَعْبُدُ اللَّهَ فيُشْهدُهمْ مرَّتِينِ، أو ثلاثاً، ثُمَّ يقُولَ : هَلْ تَعْرفُون ربَّكُمْ ؟ فيقولون : لَوْ عرَّفنَا نَفسَهُ عرفْناهُ، فعِنْدَ ذلِكَ يُكْشَفُ عن سَاقٍ فَلا يَبْقَى مُؤمِنٌ إلاَّ خَرَّ للَّه ساجِداً، ويَبْقَى المُنافِقُونَ ظُهُورهُمْ كالطَّبَقِ الوَاحدِ، كأنَّما فيهَا السَّفافِيدُ " قال : واعلم أن هذا القول باطل لوجوه : أحدها : أن الدلائل دلت على أن كل جسم متناهي وكل متناهٍ محدث، وأنّ كلَّ جسم ممكن وكل ممكن محدث.
وثانيها : أنه لو كان المراد ذلك لكان من حق الساق أن يعرف أنها ساق مخصوصة معهودة عنده، وهي ساق الرحمن، أما إذا أجملت ففائدة التنكير : الدلالة على التعظيم، كأنه قال : يوم يكشف عن شدة، وأي شدة لا يمكن وصفها.
وثالثها : أن التعريف لا يحصل بالكشف عن الساق، وإنما يحصل بكشف الوجه، ثم حكى قول أبي مسلم : بأنه لا يمكن حمله على يوم القيامة ؛ لأنه تعالى قال في وصفه :﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾ ويوم القيامة ليس فيها تعبد، ولا تكليف، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه، كقوله تعالى :﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان : ٢٢] وقوله ﴿يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ [الأنعام : ١٥٨] الآية لأنه الوقت الذي لا تنفع نفساً إيمانها، وإما حال المرض والهرم والعجز، ثم إنه يرى الناس يدعون إلى
٣٠٢
الصلاة إذا حضرت أوقاتها، وهو لا يستطيع الصلاة ﴿وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ مما بهم الآن من الشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت، أو من العجز والهرم، ونظير هذه الآية ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ﴾ [الواقعة : ٨٣].
قم قال : واعلم أنه لا نزاع في أنه يمكن حمل اللفظ على ما قال أبو مسلم، ثم قال : فأما قوله :" إنه لا يمكن حمله على يوم القيامة بسبب أن الأمر بالسجود حاصل في الدنيا والتكاليف زائلة يوم القيامة ".
فجوابه : أن ذلك لا يكون على سبيل التكليف بل على سبيل التقريع والتخجيل فلم قلت : إن ذلك غير جائزٍ.
قوله ﴿وَقَدْ كَانُواْ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾ في الدنيا ﴿وَهُمْ سَالِمُونَ﴾ معافون أصحاء.
قال إبراهيم التيمي : أي : يدعون بالأذان، والإقامة، فيأبون.
وقال سعيد بن جبيرٍ : كانوا يسمعون حيّ على الفلاح، فلا يجيبون، وهم سالمون أصحاء.
وقال كعبُ الأحبار : والله ما نزلت هذه الآية إلا في الذين يتخلفون عن الجماعات.
وقيل : أي : بالتكليف الموجه عليهم في الشرع.
قوله :﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ﴾، أي : فدعني والمكذبين بالقرآن وخلّ بيني وبينهم.
وقال الزجاجُ : لا تشغل بالك به كِلْهُ إليّ، فإني أكفيك أمره.
و " مَنْ " منصوب إما نسقاً على ضمير المتكلم، أو مفعول معه، وهو مرجوح ؛ لأمكان النسق من غير ضعف، وتقدم إعراب ما بعده.
فصل في مناسبة الآية لما قبلها لما خوف الكفار بعظمة يوم القيامة زاد في التخويف مما عنده، وفي قدرته من القهر، يقال : ذَرْنِي وغياه أي كِلْهُ إليّ، فأنا أكفيكه.
قال السديُّ : والمراد بالحديث القرآن.
وقيل : يوم القيامةِ، وهذا تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
قوله :﴿سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ﴾، أي : سنأخذهم على غفلة، وهم لا يعرفون، فعذبوا يوم بدر.
٣٠٣


الصفحة التالية
Icon