عَانِي الفُؤادِ قَريحُ القَلْبِ مَكْظُومُ
فصل في دعاء يونس " إذْ نَادَى، أي : حين دعا من بطن الحوتِ، فقال :﴿لاَّ إِلَـاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء : ٨٧] قال القرطبي : ومعنى ﴿وَهُوَ مَكْظُومٌ﴾ أي : مملوء غمّاً.
وقيل : كرباً، فالأول قول ابن عباس ومجاهد، والثاني : قول عطاء وأبي مالك، قال الماورديُّ : والفرق بينهما أن الغمَّ في القلب، والكرب في الأنفاس.
وقيل :" مَكْظُومٌ " محبوس، والكظم : الحبس ومنه قولهم :" كَظَمَ غَيْظَهُ "، أي : حبس غضبه، قاله ابن بحر.
وقيل :" إنه المأخوذ بكظمه وهو مجرى النفس، قاله المُبرِّدُ ".
والمعنى : لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر، والمغاضبه، فتبتلى ببلائه.
قوله :﴿لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ﴾.
قال ابن الخطيب : لِمَ لَمْ يَقُلْ : تداركته نعمة ؟ وأجاب : بأنه إنما حسن تذكير الفعل لفصل الضمير في " تَدَاركَهُ ".
ولأن التأنيث غير حقيقي.
٣٠٦
وقرأ أبيّ وعبد الله بن عباس :" تَدارَكتْهُ " بتاء التأنيث لأجل اللفظِ.
والحسن وابن هرمز والأعمش :" تَدّارَكهُ " - بتشديد الدال -.
وخرجت على الأصل : تتداركه - بتاءين - مضارعاً، فأدغم، وهو شاذ ؛ لأن الساكن الأول غير حرف لين ؛ وهي كقراءة البزي ﴿إذْ تَلَّقَّوْنَهُ﴾ [النور : ١٥]، و ﴿ناراً تَلَّظَّى﴾ [الليل : ١٤]، وهذا على حكاية الحال، لأن المقصد ماضيه، فإيقاع المضارع هنا للحكاية، كأنه قال : لولا أن كان يقال فيه : تتداركه نعمة.
قوله :﴿نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ﴾.
قال الضحاكُ : النعمة هنا : النبوة.
وقال ابن جبيرٍ : عبادته التي سلفت.
وقال ابن زيدٍ : تداؤه بقوله ﴿لاَّ إِلَـاهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء : ٨٧].
وقال ابن بحرٍ : إخراجه من بطن الحوتِ.
وقيل : رحمة من ربِّه، فرحمه وتاب عليه.
قوله :﴿لَنُبِذَ بِالْعَرَآءِ﴾، هذا جواب " لَوْلاَ "، أي : لنبذ مذموماً لكنه نبذ سقيماً غير مذموم.
وقيل : جواب " لَولاَ " مقدر، أي : لولا هذه النعمة لبقي في بطن الحوتِ.
ومعنى :" مَذْمُوم "، قال ابن عباس : مُليمٌ.
وقال بكر بن عبد الله : مُذنِبٌ.
وقيل : مبعدٌ من كل خير.
والعراء : الأرض الواسعة الفضاء التي ليس فيها جبل، ولا شجرة يستر.
وقيل : لولا فضلُ الله عليه لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، ثم نبذ بعراء القيامة مذموماً، يدل عليه قوله تعالى :﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ [الصافات : ١٤٣، ١٤٤].
فصل في عصمة الأنبياء قال ابن الخطيب : هل يدل قوله " وهُوَ مَذمُومٌ " على كونه فاعلاً للذنب ؟ قال : والجوابُ من ثلاثة أوجه :
٣٠٧
الأول : أن كلمة " لولا " دلت على أن هذه المذمومية لم تحصل.
الثاني : لعل المراد من المذموميةِ ترك الأفضلِ، فإن حسنات الأبرارِ سيئات المقربين.
الثالث : لعل هذه الواقعة كانت قبل النبوة، لقوله " فاجْتبَاهُ رَبُّهُ " والفاء للتعقيب.
قيل : إن هذه الآية نزلت بأحدٍ حين حل برسول الله ﷺ ما حل فأراد أن يدعو على الذين انهزموا.
وقيل : حين أراد أن يدعو على ثقيف.
قوله :﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾، أي : فاصطفاه واختاره.
﴿فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
قال ابن عباس : رد الله إليه الوحي، وشفعه في نفسه، وفي قومه، وقبل توبته وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مائة ألفٍ، أو يزيدون.
فصل فيمن قال : إن يونس لم يكن نبياً قبل واقعة الحوت قال ابن الخطيب : قال قوم : لعل صاحب الحوتِ ما كان رسولاً قبل هذه الواقعة، ثم بعد هذه الواقعة جعله الله رسولاً، وهو المرادُ من قوله ﴿فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ﴾ والذين أنكروا الكرامات والإرهاص لا بد وأن يختاروا هذا القول، لأن الاحتباس في بطن الحوت، وعدم موته هناك لما لم يكن هناك إرهاص، ولا كرامة، فلا بد وأن تكون معجزة، وذلك يقتضي أنه كان رسولاً في تلك الحال.
فصل في خلق أفعال العباد قال ابن الخطيب : احتج الأصحاب على أن فعل العبد خلق الله بقوله :﴿فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ وهذا يدل على أن الصلاح إنما حصل بجعل الله وخلقه.
قال الجبائيُّ : يحتمل أن يكون معنى " جعلهُ " أنه أخبر بذلك، ويحتمل أن يكون لطف به حتى صلح، إذ الجعل يستعمل في اللغة في هذه المعاني.
والجواب : أن ذلك مجاز، والأصل في الكلامِ الحقيقة.
قوله :﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ " إنْ " المخففة من الثقيلة :" ليُزلقُونَكَ "، أي : يغتالونك بأبصارهم، قرأها نافع : بفتح الياء، والباقون : بضمها.
٣٠٨


الصفحة التالية
Icon