قال ابن الخطيب : واعلم أن وجه التكذير في هذا أن نجاة قومٍ من الغرقِ في السَّلإينة، وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم، ونفاذ مشيئته، ونهاية حكمته، ورحمته، وشدة قهره.
روي أنَّ النبي ﷺ قال عند نزول هذه الآية :" سَألْتُ اللَّه أنْ يَجْعلهَا أذنَكَ يا عليُّ "، قال علي رضي الله عنه :" فما نَسِيتُ شيئاً بعد ذلك " فإن قيل : لِمَ قال :" أذُنٌ واعِيَةٌ " على التوحيد والتنكير ؟.
فالجوابُ : للإيذان بأن الوعاة فيهم قلةٌ، ولتوبيخ الناس بقلة من يَعِي منهم، والدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعيت وعقلتْ عن الله، فهي السَّواد الأعظم عند الله، وأن سواها لا يلتفت غليهم، وإن امتلأ العالمُ منهم.
ونظير هذه الآية قوله تعالى :﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ﴾ [ق : ٣٧].
قال قتادة : الأذُنُ الواعيةُ أذنٌ عقلتْ عن الله تعالى، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل.
قوله :﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾.
لما حكى هذه القصص الثلاثة ونبَّه بها على ثبوت القدرة والحكمة للصانع، فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة، وثبت القدرة إمكان وقوع الحشر، ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة، فذكر أولاً مقدماتها، فقال :﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾.
قوله :" واحدةٌ " تأكيد، و " نَفْخَةٌ " مصدر قام مقام الفاعل.
وقال ابنُ عطية :" لما نُعِتَ صحَّ رفعهُ " انتهى.
ولو لم يُنعتْ لصحَّ رفعه ؛ لأنه مصدر مختص لدلالته على الوحدة، والممنوع عند البصريين إنما هو إقامة المبهمِ، نحو :" ضَرَبَ ".
والعامةُ على الرفع فيهما.
وقرأ ابو السّمال : بنصبهما، كأنه أقام الجارَّ مقام الفاعلِ، فترك المصدر على
٣٢٣
أصله، ولم يؤنث الفعل وهو :" نُفِخَ " ؛ لأن التأنيث مجازي وحسَّنه الفصل انتهى.
فصل في النفخة الأولى قال ابن عباس : هي النفخة الأولى لقيام الساعة، فلا يبقى أحد إلا مات.
قال ابن الخطيب : لأن عندها يحصل خرابُ العالمِ.
فإن قيل : لم قال بعد ذلك ﴿يَوْمَئِذٍ تَعْرَضُونَ﴾ والعرض إنما يكون عند النفخة الثانية ؟.
قلت : جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النَّفختان، والصَّعقة والنشور، والوقوف، والحساب، فكذلك ﴿يَوْمَئِذٍ تَعْرَضُونَ﴾ كقوله :" جئتُه عام كذا " وإنَّما كان مجيئُك في وقتٍ واحدٍ من أوقاته.
وقيل : إنَّ هذه النَّلإخة هي الأخيرةُ.
وقال :﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾، أي : لا تثنَّى.
قال الأخفشُ : ووقع الفعلُ على النَّفخة، إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع، فقيل : نفخة.
قوله :﴿وَحُمِلَتِ الأَرْضُ﴾، قرأ العامة : بتخفيف " الميم ".
أي : وحملتها الريحُ، أو الملائكةُ، أو القدرةُ، أي : رفعتْ من أماكنها، " فَدُكَّتا "، أي : فُتَّتَا وكسِّرتا، ﴿دَكَّةً وَاحِدةً﴾ أي : الأرض والجبالُ ؛ لأن المراد الشيئان المتقدمان، كقوله :﴿وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ﴾ [الحجرات : ٩].
ولا يجوزُ في " دكَّةً " إلا النصبُ ؛ لارتفاع الضمير في " دُكَّتَا ".
وقال الفرَّاءُ : لم يقلْ :" فَدُكِكْنَ " ؛ لأنه جعل الجبال كلها كالجملةِ الواحدة [والأرض كالجملة الواحدة] ومثله :﴿أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً﴾ [الأنبياء : ٣٠]، ولم يقل :" كُنَّ ".
وهذا الدَّكُّ، كالزلزلةِ لقوله تعالى :﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ [الزلزلة : ١].
وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنَّها تحمل الأرض والجبال، أو بملك من الملائكة، أو بقدرة الله، " فَدُكَّتَا "، أي : جملة الأرض، وجملة الجبال تضرب بعضها في بعض حتى تندق وتصير ﴿كَثِيباً مَّهِيلاً﴾ [المزمل : ١٤]، و ﴿هَبَآءً مُّنبَثّاً﴾ [الواقعة : ٦].
٣٢٤