أمَّا ذبائح أهل الكتاب، فتحلُّ لنا، لقوله تبارك وتعالى :﴿وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ﴾ [المائدة : ٥].
فصل في اختلافهم في اقتضاء تحريم الأعيان الإجمال اختلفوا في التَّحريم المضاف إلى الأعيان، [هل يقتضي الإجمال ؟ فقال الكَرْخيُّ : إنَّه يقتضي الإجمال، لأنَّ الأعيان] لا يمكن وصفها بالحل والحرمة فلا بد من صرفها إلى فعل من الأفعال فيها، وهو غير محرَّم، فلا بُدَّ من صرف هذا التحريم إلى فعل خاصٍّ، وليس بعض الأفعال أولى من بعضٍ ؛ فوجب صيرورة الآية الكريمة مجملةً.
وأمَّا أكثر العلماء، فقالوا : إنَّها ليست بمجلةٍ، بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرُّف ؛ قياساً على هذه الأجسام ؛ كما أنَّ الذوات لا تملك، وإنَّما تُمْلَكُ التصرُّفات فيها، فإذا قيل :" فلانٌ يَمْلِكُ جاريةً "، فهم كلُّ أحدٍ أنه يملك التصرُّف فيها ؛ فكذا هاهنا.
فإن قيل : لم لا يجوز تخصيص هذا التَّحريم بالأكل ؛ لأنَّه المتعارف من تحريم الميتة، ولأنَّه ورد عقيب قوله :﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة : ١٧٢]، ولقوله - عليه الصلاة والسلام - في خبر شاة ميمونة :" إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُهُا " فالجواب عن الأوَّل : لا نسلِّم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم الأكل.
وعن الثَّاني : بأنَّ هذه الآية الكريمة مسألةٌ بنفسها ؛ فلا يجب قصرها على ما تقدَّم، بل يجب إجراؤها على ظاهرها.
وعن الثَّالث : أنَّ ظاهر القرآن مقدَّم على خبر الواحد، هذا إذا لم نُجَوِّزْ تخصيص القرآن بخبر الواحد، فإن جوَّزناه، يمكن أن يجاب عنه ؛ بأن المسلمين، إنَّما يرجعون في معرفة وجوه الحرمة إلى هذه الآية ؛ فدلَّ انعقاد إجماعهم على أنَّها غير مختصَّة ببيان حرمة الأكل، وللسَّائل أن يمنع هذا الإجماع، والله تعالى أعلم.
فإن قيل : كلمة " إنَّما " تفيد الحصر، فيقتصر على تحريم باقي الآية الكريمة، وقد ذكر في سورة المائدة هذه المحرمات، وزاد فيها : المنخنقة، والموقوذة، والمتردِّية، والنَّطيحة، وما أكل السَّبع، فما معنى هذا الحصر ؟ فالجواب : أنَّ هذه الآية متروكة العمل بظاهرها، وإن قلنا : إنَّ كلمة " إنَّما لا تفيد الحصر، فالإشكال زائلٌ.
١٧٤
فصل في بيان مذاهب الفقهاء في الدباغ للفقهاء سبعة مذاهب في أمر الدباغ : فأولها : قول الزُّهريِّ : يجوز استعمال جلود الميتة بأسرها قبل الدِّباغ، ويليه داود، قال : تطهر كلُّها بالدِّباغ، ويليه مالكٌ ؛ فإنه قال يطهر ظاهرها كلُّها دون باطنها، ويليه أبو حنيفة - رضي الله عنه - قال : يطهر كلها بالدِّباغ غلا جلد الخنزير، ويليه قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه - قال : تطهر كلُّها بالدِّباغ إلاَّ جلد الكلب والخنزير، ويليه الأوزاعي، وأبو ثور، قالا : يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط، ويليه أحمد بن حنبل، قال : لا يطهر منها شيء بالدباغ ؛ واحتجَّ بالآية الكريمة، والخبر ؛ أما الآية : فقوله تبارك وتعالى :﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة : ٣] فأطلق التحريم، ولم يقيِّده بحالٍ دون حالٍ، وأمَّا الخبر : فقوله - عليه الصلاة والسلام - في حديث عبد الله بن عُكَيم، لأنه قال :" أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَبْلَ وفَاتِهِ بِشَهْرٍ، أو شَهْرَيْنِ : أنِّي كَنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ في جُلُودِ المَيْتَةِ، فَإذَا أَتَاكُمْ كِتَابي هَذَا، فَلاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بإِهَابِ، وَلاَ عَصَبٍ ".
واختلفوا في أنَّه، هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازيِّ، والبهيمة ؟ فمنهم : من منع منه ؛ وقال : لأنَّه انتفاعٌ بالميتة، والآية الكريمة دالَّةٌ على تحريم الانتفاع بالميتة، فأمَّا إذا أقدم البازيُّ من عند نفسه على أكل الميتة، فهل يجب عليه منعه، أم لا ؟ فيه احتمالٌ : فصل اختلافهم في حرمة الدِّماء غير المسفوحة حرَّم جمهور العلماء الدَّم، سواءٌ كان مسفوحاً، أو غير مسفوحٍ، وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - :[دمٌ السَّمك ليس بمحرَّم.
حجَّة الجمهور : ظاهر هذه الآية الكريمة، وتمسَّك أبو حنيفة - رضي الله عنه - ] بقوله تعالى :﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً﴾ [الأنعام : ١٤٥] فصرَّح بأنَّه لم يجد من المحرمَّات شيئاً، إلاّ ما ذكر، فالدَّم الذي لا يكون مسفوحاً، وجب ألاَّ يكون محرَّماً ؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة خاصَّة، وتلك عامَّةٌ، والخاصُّ مُقدَّمٌ على العامِّ.
وأُجيب بأنَّ قوله " لا أجِدُ " ليس فيه دلالةُ على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في
١٧٥


الصفحة التالية
Icon