واتفقوا على الفتح في قوله تعالى :﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾.
وتلخيص هذه أن " أنَّ " المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام : قسم : ليس معه واو العطف، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية، كقوله ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ﴾، لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر، وكقوله ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً﴾، لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول.
القسم الثاني : أن يقترن بالواو، وهوأربع عشرة كلمة، إحداها : لا خلاف في فتحها وهو قوله :﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ﴾ وهذا هو القسمُ الثاني.
والثالث :" وأنه لما قام " يكسرها ابن عامر وأبو بكر، وفتحها الباقون.
كما تقدم تحرير ذلك كله.
والاثنتا عشرة : وهي قوله ﴿وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ﴾ [الجن : ٣]، ﴿وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ﴾ [الجن : ٤] ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ﴾ [الجن : ٥]، ﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ﴾ [الجن : ٦]، ﴿وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ﴾ [الجن : ٧]، ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا﴾ [الجن : ٨]، ﴿وَأَنَّأ كُنَّا﴾ [الجن : ٩]، ﴿وَأَنَّا لاَ نَدْرِى ﴾ [الجن : ١٠]، ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ﴾ [الجن : ١١]، ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّآ﴾ [الجن : ١٢]، ﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا﴾ [الجن : ١٣]، ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ﴾ [الجن : ١٤].
فهذا ضبطها من حيثُ القراءات، وأما توجيه ذلك فاختلف الناسُ فيه.
فقال أبو حاتم في الفتح : هو معطوف على مرفوع " أوحِيَ "، فتكون كلها في موضع رفع لما لم يسم فاعله.
ورد ذلك من حيث أنَّ أكثرها لا يصح دخولها تحت معمول " أوحِيَ "، ألا ترى أنه لوقيل " وحي إلينا أنا لمسنا السماء، وأنا كنا، وأن لا ندري وأنا منا الصالحون، وأنا لما سمعنا الهدى، وأنا منا المسلمون " لم يستقيم معناه.
وقال مكيٌّ : وعطف " أن " على " آمنَّا بِهِ " أتم في المعنى من العطف على " أنَّهُ اسْتضمَعَ " لأنَّك لو عطفت " وأنا ظننا، وأنا لما سمعنا، وأنه كان رجال من الإنس، وأنا لمسنا " وشبه ذلك على " أنَّهُ اسْتمَعَ " لم يجز ؛ لأنه ليس مما أوحي إليه إنَّام هو مر أخبروا به عن أنفسهم، والكسر في هذا أبينُ وعليه جماعة من القُرَّاءِ.
الثاين : أن الفتح في ذلك عطف على محل " بِهِ " من " آمنَّا بِهِ ".
قال الزمخشريُّ :" كأنه قال : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه يقول سفيهنا، وكذلك البواقي ".
إلا أن مكياً ضعف هذا الوجه فقال :" والفتح في ذلك على الجمل على معنى :
٤١١
" آمنَّا بِهِ "، فيه بعدٌ في المعنى ؛ لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا، بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به، ولم يخبروا أنَّهم آمنوا أنه كان رجال، إنما حكى الله عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين به عن أنفسهم لأصحابهم، فالكسر أولى بذلك " وهذا الذي قاله غير لازم، فإن المعنى على ذلك صحيح، وقد سبق الزمخشري إلى هذا التخريج الفرَّاء والزجاج، إلا أن الفراء استشعر إشكالاً وانفصل عنه، فإنه قال : فتحت " أن " لوقوع الإيمان عليها، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض فلا يمنع من إمَائهن على الفتح، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح " أن " نحو : صدقنا، وشهدنا، كما قالت العرب :[الوافر]
٤٨٩٣ - وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا
فنصب " العيونَ " لإبتاعها " الحواجب "، وهي لا تزجج إنما تكحل، فأضمر لها الكحل.
انتهى فأشار إلى شيء مما ذكره وأجاب عنه.
وقال الزجاج :" لكن وجهه أن يكون محمولاً على " آمنَّا بِهِ " وصدقناه وعلمناه، فيكون المعنى : صدقنا أنه تعالى جد ربِّنا ما اتخذ صاحبة ".
الثالث : أنه معطوف على الهاء في " بِهِ "، أي : آمنا به وبأنه تعالى جد ربنا، وبأنه كان يقول - إلى آخره - وهو مذهب الكوفيين.
وهو، وإن كان قوياً من حيثُ المعنى، إلا أنه ممنوع من حيث الصناعة لأنه لا يعطف على الضمير المجرور، إلا بإعادة الجار.
وتقدم تحرير هذين القولين في سورة " البقرة " عند قوله :﴿وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ [البقرة : ٢١٧] على أن مكياً قد قوى هذا المدرك، وهو حسن جداً، فقال : هو يعني العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار في " أن " أجود منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر " إلى " مع " أن ".
ووجه الكسر : العطف على " إن " في قوله :" إنَّا سَمعْنَا " فيكون الجميع معمولاً للقول فقالوا :" إنَّا سَمِعْنَا "، وقالوا :" إنَّه تعَالى جَدُّ ربِّنَا " إلى آخرها.
وقال بعضهم : الجملتان من قوله تعالى :﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ﴾، ﴿وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ﴾ معترضتان بين قول الجن، وهما من كلام الباري تعالى.
والظاهر أنه من كلامهم قاله بعضهم لبعض.
٤١٢