وقد تقدم في أول " النساء " أن " قَسَطَ " : ثلاثياً بمعنى " جَارَ "، و " أقسط " الرباعي بمعنى " عَدَل ".
وأن الحجاج قال لسعيد بن جبيرٍ : ما تقول فيَّ ؟.
قال : إنَّك قاسط عادل، فقال الحاضرون : ما أحسن ما قال، فقال : يا جهلة، جعلني كافراً جائراً، وتلا قوله تعالى :﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾.
وقرأ ﴿ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام : ١].
قوله :﴿فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـائِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً﴾.
أي : قصدوا طريق الحقِّ، وتوخوه، وطلبوه باجتهاد، ومنه التحري في الشيء.
قال الراغبُ :" حرى الشيء يحري، أي : قصد حراه، أي : جانبه، وتحراه كذلك، وحَرَى الشيء يَحْرِي، نقص، كأنَّه لزم حراه، ولم يمتد ؛ قال الشاعر :[الكامل] ٤٩٠٩ -..............................
والمَرْءُ بَعْدَ تمامهِ يَحْرِي
ويقال : رماه الله بأفعى حارية، أي : شديدة " انتهى.
وكأنه أصله من قولهم : هو حريٌّ بكذا، أي حقيق به.
و " رَشَداً " مفعول به.
والعامة قرأوا :" رشداً " - بفتحتين - والأعرج : بضمة وسكون.
قوله :﴿وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ﴾.
أي : الجائرون عن طريق الحق والإيمان ﴿فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً﴾ أي : وقوداً، وقوله " فَكانُوا " أي : في علم الله تبارك وتعالى.
فإن قيل : ذكر عقاب القاسطين ولم يذكر ثواب المسلمين.
فالجواب : بل ذكر ثواب المؤمنين بقوله ﴿تَحَرَّوْاْ رَشَداً﴾ أي : تَحرَّوا رشداً عَظِيماً لا يعلم كنهه إلاَّ الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا بالثَّواب.
فإن قيل : فإنَّ الجنَّ مخلوقون من النَّار، فكيف يكونون حطباً للنار ؟.
فالجواب : أنّهم وإن خلقوا من النار لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية فيصيرون لحماً، ودماً هكذا قيل.
٤٢٦
وهذا آخر كلام الجن.
قوله ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ عَلَى الطَّرِيقَةِ﴾، " أنْ " هي المخففة من الثقيلة، وتقدم أنه يكتفي بـ " لو "، فأصله بين " أن " المخففة، وخبرها إذا كان جملة فعلية في سورة " سَبَأ ".
وقال أبو البقاء هنا :" ولو " عوض كالسِّين، وسوف، وقيل :" لَوْ " بمعنى " إن " و " إن " بمعنى اللام، وليست بلازمة كقوله ﴿لَئِن لَّمْ تَنتَهِ﴾ [مريم : ٤٦]، وقال في موضع آخر :﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ﴾ [المائدة : ٣٧] ذكره ابن فضالة في البرهان.
قال شهاب الدين :" وهذا شاذٌّ لا يلتفت إليه ألبتة لأنه خلاف النحويين ".
وقرأ العامة : بكسر " وأن لو " على الأصلك.
وابن وثَّاب والأعمشُ : بضمها، تشبيهاً بواو الضمير.
وقد تقدم تحقيقه في البقرة.
فصل في بيان أن الله أوحى إليهم أن الإيمان بسبب البسطة في الرزق هذا من كلام الله تعالى، أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق، وهذا محمولٌ على الوحي، أي أوحي إليَّ أن لو استقاموا.
قال ابنُ بحر كل ما كان في هذه السروة من " أنَّ " المثقلة فهي حكايةٌ لقول الجن الذين سمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من " أن " المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن الأنباريِّ : ومن كسر الحروف، وفتح ﴿وأنْ لو اسْتقَامُوا﴾ أضمر يميناً تأويلها : والله أن لو استقاموا على الطريقة، كما يقال في الكلام : والله إن قمت لقمت، والله لو قمت قمت.
قال الشاعر :[الوافر] ٤٩١٠ - أمَا - واللَّهِ - أن لَوْ كُنْتَ حُرّاً
ومَا بالحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ
جزء : ١٩ رقم الصفحة : ٤٠٤
ومن فتح ما قبل المخففة نسقها على تقدير :﴿أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ﴾، ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُواْ﴾ أو ﴿على آمنا به﴾ ويستغنى عن إضمار اليمين.
٤٢٧